بينما خرجت اليابان من تحت رماد القنابل النووية لتصبح قوة صناعية عالمية مندمجة في النظام الدولي، تقف إيران اليوم على مفترق طرق بعد أزمتها الأخيرة، في لحظة تاريخية قد تحدد مصيرها لعقود قادمة: هل تختار طهران مسار الإصلاح وإعادة الاندماج، أم تنزلق نحو صدام مدمر وانكماش اقتصادي يهدد استقرارها؟
الدرس الياباني: من الانكسار إلى الاندماج
في عام 1945، تلقت اليابان ضربة لم يسبق لها مثيل بسقوط قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناجازاكي، إلى جانب الدمار الهائل الذي خلفته الحرب العالمية الثانية. غير أن القيادة اليابانية أدركت سريعًا أن السبيل الوحيد للنهوض هو الاعتراف بالواقع الدولي الجديد، والتحرك لإعادة بناء الداخل والانفتاح على العالم.
اتخذت اليابان خطوات أساسية، كان من أبرزها إنتاج رؤية واضحة للمستقبل، والتزام دقيق بشروطها، وتوفر الإرادة القوية لإنفاذها على مستويات الدولة، وهيئات الشعب ومؤسسات الأمة كافة، وقد تحققت هذه الرؤية من خلال التالي:
أولًا: اعتراف اليابان بالهزيمة العسكرية رسميًا وشعبيًا في الحرب وبشكل واضح؛ إذ لا يوجد هروب من المسؤوليات السياسية والاقتصادية المترتبة على ذلك داخليًا وعالميًا؛ فلم يحاولوا خداع أنفسهم بأن ما حدث هو نكسة مؤقتة، أو خسارة عابرة، أو يعيشوا في وهم عنوانه “خسرنا المعركة، ولكن لم نخسر الحرب”، واستتبع هذا الاعتراف إقالة كل المتسببين في الهزيمة من مناصبهم.
ثانيًا: تغيير التوجه الاستراتيجي للدولة؛ فقبل هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية كانت تتحرك بفلسفة “التمدد الخارجي”، وذلك لصغر مساحة البلد، وارتفاع الكثافة السكانية بها مع قلة الموارد الطبيعية المتاحة والبيئة الجبلية القاسية؛ فلا أمل للتقدم والاستقرار لليابان إلا من خلال السطو على ثروات الجيران مثل الصين، والملايو، وسنغافورة، وكوريا، وبورما. ولكن بعد الهزيمة الساحقة لليابان تم إنتاج رؤية جيو-استراتيجية جديدة قائمة على أن مستقبل اليابان مرهون بالتوجه للداخل واستغلال المتاح من الثروات لبناء وطن جديد. وهذه الرؤية الجديدة انحازت للسلام مع الإقليم والنظام العالمي القائم، وهو ما وفّر على اليابانيين بذل مزيد من الدماء والدموع والألم في مسار غير مجدٍ، ولا نافع، وجالب للخسائر، والضحايا، والعداء.
ثالثًا: تحمل القيادة اليابانية للمسؤولية التاريخية بشجاعة؛ حيث أعلن الإمبراطور هيروهيتو، في خطاب إذاعي بُث في 15 أغسطس 1945، استسلام اليابان للحلفاء، والموافقة على شروطهم القاسية. ولم يجد سبيلاً آخر للمقاومة في ظل استعداد الاتحاد السوفييتي لمهاجمة اليابان بالتزامن مع هجوم قوات الحلفاء؛ فقد أعلنت مجلة “حرب المقر الإمبراطوري” في ذلك الوقت أنه “لم يعد بإمكاننا خوض الحرب مع أي أمل في النجاح، المسار الوحيد المتبقي لليابان هو أن يُقدم مائة مليون شخص ياباني على التضحية بحياتهم ليجعلوا رغبة العدو في القتال معدومة”.
بعد الاستسلام، بدأ الإمبراطور هيروهيتو في إنتاج وتأسيس نظام دستوري وبرلماني قائم على اعتبار الإمبراطور ليس إلهاً، وبذلك يكون قد منح اليابان نظاماً ديمقراطياً قائماً على احترام إرادة الشعب.
رابعًا: تم تطوير مناهج التعليم اليابانية لتتناسب مع الرؤية الجديدة التي أصبحت تؤمن بالتعايش والسلام، وعدم العدوان، وتقطع مع الحقبة التاريخية الإمبراطورية؛ فقد تبنت اليابان فلسفة النهوض بالسلم أو القوة النظيفة (Soft Power) التي تشجع الحلول الدبلوماسية وليس العسكرية للنزاعات التاريخية الموروثة، من خلال التركيز على الطاقة الإبداعية لدى الشعوب، والقدرة على التواصل والإبداع؛ وهو ما استدعى إعداد كادر تعليمي جديد ومُدرب ومؤمن بالرسالة الحضارية الجديدة، وفي ذات الوقت تم استبعاد الكادر القديم الذي أصر على تبني خيار الحرب والعنف.
هكذا نجحت طوكيو في تحويل الهزيمة إلى فرصة تاريخية، مستفيدة من الدعم الأمريكي لهذا التوجه الجديد، لكنها دفعت ثمنًا من الاستقلال الاستراتيجي لصالح ضمان الأمن والتنمية.
الأزمة الإيرانية: مأزق وفرصة
في السنوات الأخيرة، واجهت إيران تحديات اقتصادية خانقة، مع عزلة دولية متصاعدة وتوترات إقليمية متعددة. ارتفعت معدلات التضخم إلى أكثر من 50%، وانخفضت قيمة العملة الإيرانية بشكل غير مسبوق، وضاعف من تعقّد الأمور عليها تعرضها مؤخرًا للهجوم الإسرائيلي–الأمريكي، والذي استُخدمت فيه أسلحة عالية الدقة والتدمير، استهدفت منشآت نووية تحت الأرض ومراكز عسكرية استراتيجية.
وقد كشفت العملية عن اختراق استخباراتي عميق للمنظومة الأمنية الإيرانية، مكّن من ضرب مواقع محصّنة كـ”فوردو” و”نطنز” و”أصفهان” بدقة مذهلة، مما يشير إلى تعاون داخلي أو ضعف في تأمين المعلومات. وأسفرت الضربات عن خسائر بشرية فادحة في صفوف القيادات الوسطى والخبراء النوويين، حيث قُدّر عدد القتلى بنحو 1,000 شخص، بينهم كوادر تقنية وعسكرية. وقد تسببت في شلل مؤقت لبرنامج إيران النووي وتعطيله لأشهر، لكنها لم تُفقده قدرته على النهوض مجددًا.
هذه العملية مثلت رسالة ردع قاسية، ليس فقط بالقوة النارية، بل أيضًا بما كشفته من هشاشة استخباراتية داخل عمق إيران الأمني.
إيران اليوم بحاجة إلى مراجعة جذرية لمسارها في ضوء التغيرات الإقليمية والدولية، حيث تجد نفسها أمام مفترق طرق:
1️⃣ الاستمرار في نهج الصدام والمواجهة، وهو ما قد يقود إلى مزيد من العزلة والانهيار التدريجي.
2️⃣ تبني استراتيجية الإصلاح وإعادة التموضع، بما يسمح لها بإعادة الاندماج في النظامين الإقليمي والدولي مع الحفاظ على هويتها واستقلالها.
ماذا يمكن أن تتعلم إيران من اليابان؟
تقدم التجربة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية لإيران دروسًا مهمة دون الحاجة إلى تكرار نموذج “الذوبان” في النظام الغربي من خلال التفكير في عمل هذه الإجراءات العاجلة:
الإصلاح الداخلي أولًا: لا استقرار خارجي دون اقتصاد داخلي قوي، وإدارة رشيدة، ومصالحة مع الشعب.
إعادة تعريف الأمن القومي: ليس من خلال الصدام المستمر، بل من خلال بناء قوة داخلية قادرة على التفاوض وحماية المصالح عبر الدبلوماسية الذكية.
فتح قنوات التواصل الدولي: للاستفادة من الفرص الاقتصادية والتقنية دون التضحية بالسيادة والهوية.
استثمار الهوية الحضارية: يمكن لإيران استخدام عمقها الثقافي الإسلامي والفارسي كأداة قوة ناعمة لا وسيلة مواجهة، بما يعزز مكانتها الإقليمية والدولية دون استفزاز مستمر.
بين الانصهار والهوية: خيار إيران
على عكس اليابان، تمتلك إيران فرصة للحفاظ على هويتها الحضارية والثقافية دون الذوبان الكامل في النظام الدولي، لكنها بحاجة إلى الحكمة والبراغماتية لتحقيق ذلك.
🔹 لا يمكن لإيران مواجهة النظام الدولي منفردة إلى الأبد بدون حلفاء استراتيجيين، ولا يمكنها تحقيق التنمية والازدهار تحت وطأة العقوبات المستمرة والعداء المستمر مع المحيط الإقليمي.
🔹 في الوقت نفسه، يمكنها، عبر سياسة متوازنة، بناء نموذج خاص بها يمكّنها من استعادة اقتصادها ومكانتها دون الانسحاق تحت الهيمنة الغربية، من خلال تنفيذ حزمة الإجراءات المطروحة سابقاً وغيرها من السياسات المتعارف عليها في هذا الباب؛ فمستقبل الأمم لا يُصنع بالعناد الأجوف، ولا بالذوبان الكامل، بل يُصنع عبر إيجاد التوازن بين الهوية والمصلحة، بين الاستقلال والتعاون، بين القوة الناعمة والقوة الصلبة.
إيران اليوم أمام فرصة تاريخية لتعيد تعريف نفسها بعد الصدمات التي مرّت بها، لتختار مسار الإصلاح والانفتاح وإعادة التموضع الإقليمي والدولي دون فقدان هويتها وروحها الإمبراطورية المتوارثة حتى تكون إضافة نوعية للأمة الإسلامية.