ما مدى الصلة بين التوتر والإصابة بالسرطان؟
سر “العصارة السوداء”

قبل قرابة ألفي عام، قال الطبيبان اليونانيان أبقراط وجالينوس إن الحزن أو الاكتئاب، الناجم عن زيادة ما سمّياه “العصارة السوداء” داخل الجسم، يؤدي إلى الإصابة بالسرطان.
ومنذ القديم يبحث عشرات الأطباء والعلماء عن العلاقة بين السرطان والحالة الذهنية للشخص، لدرجة أن بعضهم وصل إلى حد القول بأن شخصيات بعض الناس “تميل إلى الإصابة بالسرطان”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsدواء جديد قد يجنّب مرضى التهاب القنوات الصفراوية الحاجة إلى زراعة الكبد
أطباء متطوعون من قطر يروون جانبا من مآسي الأزمة الإنسانية في غزة (فيديو)
فوائد الزنجبيل: استخداماته الصحية ومحاذيره التي لا يمكن تجاهلها
ورغم أن معظم الباحثين الآن يرفضون فكرة الشخصيات المعرضة للإصابة بالسرطان، فإنهم ما زالوا يبحثون عن العلاقة بين التوتر والعوامل النفسية من ناحية وبين احتمالات الإصابة بمرض السرطان وتطوره داخل الجسم من ناحية أخرى.
وقد ربطت مئات من الدراسات الطبية شارك فيها عشرات الآلاف من المتطوعين بين السرطان وبين الاكتئاب وتدنّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والعوامل الأخرى المسببة للتوتّرات العصبية.
اكتشاف آليات مهمة
وتقول الباحثة جوليان بوار أستاذة طب النفس بجامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس الأمريكية، إن الباحثين عكفوا على دراسة هذه الصلة من زوايا مختلفة من خلال إجراء تجارب على الخلايا والحيوان، وقد أفضت هذه الدراسات إلى اكتشاف آليات مهمة لطريقة تأثير التوتر في الأورام السرطانية.
وأضافت في مقال بحثي نشرته الدورية العلمية (Annual Review of Clinical Psychology) المتخصصة في طب النفس أن العوامل النفسية يمكن أن تؤثر في الجوانب البيولوجية للورم السرطاني، وأن منع الإشارات الكيميائية التي يسببها التوتر داخل الجسم يمكن أن يحسن من فرص العلاج من هذا المرض.

جسامة التأثير السلبي للتوتر
وتؤكد الطبيبة إليزابيث راباسكي من مركز روزيل بارك لعلاج السرطان في نيويورك، في تصريحات للموقع الإلكتروني (Knowable Magazine) المتخصص في الأبحاث العلمية أنه “لا أحد يدرك مدى جسامة التأثير السلبي لحالة التوتر العادية، إذا كانت مزمنة، في نمو الخلايا السرطانية”.
وقد توصلت الباحثة إريكا سلون المتخصصة في مجال السرطان بجامعة موناش بأستراليا، إلى أن فئران التجارب المصابة بحالات توتر مزمنة تتزايد لديها الوصلات بين أورام الثدي والنظام الليمفاوي داخل الجسم، مما يزيد من فرص انتشار السرطان.
واتضح خلال الدراسة أن العلاج بأدوية “حاصرات مستقبلات بيتا” (Beta Blockers)، وهي من الأدوية التي تستخدم لعلاج ارتفاع ضغط الدم وتثبّط هرمونات التوتر داخل الجسم مثل “نورإبينفرين”، توقف نشاط جزيئات رئيسية في النظام العصبي السيمبثاوي وتمنع انتشار السرطان لدى فئران التجارب.
تغيرات داخل الجهاز المناعي
وتوصّلت فرق بحثية أخرى إلى أن التوتر يؤدي إلى تغيّرات على مستوى الجزيئات داخل الجهاز المناعي للجسم، مما يعزز نمو الخلايا السرطانية، وأوضحت أن التوتر يؤدي إلى زيادة الالتهابات، وهي ردّ مناعي ينجم عن الإصابات أو العدوى، وأن الالتهابات بدورها تعزز نمو الأورام السرطانية.
ويؤكد الباحثون أن التوتر يعرقل نشاط الخلايا المناعية التي تؤدي دورًا رئيسيًّا في مقاومة السرطان.
وفي مطلع القرن الحالي، توصلت سوزان لتوجندورف أستاذة العلوم السلوكية بجامعة أيوا الأمريكية إلى أن التوتر والاكتئاب يثبّطان قدرة الخلايا المناعية على مقاومة السرطان لدى مريضات سرطان المبيض.
غياب الدعم النفسي والاجتماعي
وتوصّل الباحثون أيضًا إلى أن غياب الدعم النفسي والاجتماعي للمريضات بهذا النوع من السرطان يؤدي إلى تزايد نمو الأوعية الدموية التي تغذّي الأورام السرطانية.
ووجدت الباحثة لتوجندورف وزملاؤها خلال أبحاث على فئران تجارب مصابة بسرطان المبيض أن التوتر يزيد من تكون الأوعية الدموية التي تغذي الأورام، مما يساعد على انتشار السرطان في الجسم، ولكنهم توصّلوا أيضًا إلى أنه من الممكن مقاومة هذه التأثيرات عن طريق أدوية حاصرات مستقبلات بيتا التي تقاوم هرمونات التوتر.
واكتشفت فرق بحثية أخرى أن “حاصرات مستقبلات بيتا” لها تأثير إيجابي على أنواع أخرى من السرطان في القوارض مثل سرطان الدم والبروستاتا.
ويؤكد الباحثون أن زيادة معدلات هرمونات التوتر مثل نورإبينفرين وكورتيزول تؤدي إلى تنشيط الخلايا السرطانية الكامنة داخل الجسم بحيث تنشطر وتكوّن أورامًا جديدة.

تغيرات بيوكيميائية
وتشير مثل هذه الدراسات إلى أن التوتر يؤدي إلى تحريك سلسلة من التغيرات البيوكيميائية داخل الجسم، مما يساعد على إيجاد بيئة مواتية لانتشار السرطان.
وتوضح الباحثة جنيفر نايت المتخصصة في طب النفس لمرضى السرطان في كلية الطب بجامعة ويسكنسون الأمريكية، أن “الإشارات الناجمة عن التوتر والبيئة البيولوجية المحيطة بالتوتر لها تأثير في جميع التفاعلات التي تؤدي إلى انتشار السرطان”.
“حاصرات مستقبلات بيتا”
وتوصلت الطبيبة إليزابيث راباسكي إلى أن “حاصرات مستقبلات بيتا” تساعد في زيادة فعالية وسائل العلاج المناعي للسرطان.
وخلال بعض التجارب السريرية، وجد الباحثون أن خلايا سرطان الثدي التي تم استئصالها من مرضى يتلقون العلاج بحاصرات مستقبلات بيتا تحتوي على كمية أقل من المؤشرات الحيوية التي تدل على حدوث انبثاث أي هجرة الخلايا السرطانية داخل الجسم، وزيادة في عدد الخلايا المناعية التي تقاوم السرطان.
ورغم أن الدراسات على حاصرات مستقبلات بيتا تعتبر واعدة، فليس من الواضح ما إذا كانت هذه الأدوية يمكنها علاج جميع أنواع السرطان، حيث إن بعض المرضى ظهرت لديهم استجابة سلبية حيال هذه العلاجات لا سيما مرضى الربو وبعض مرضى القلب.
وتقول باتريشيا مورينو خبيرة طب النفس في جامعة ميامي الأمريكية “لا يمكننا أن نقول بشكل قاطع إن التوتر يؤدي للإصابة بالسرطان”، ولكن بالنسبة للمصابين بالفعل بهذا المرض الخبيث، فإن كثيرا من الباحثين يؤكدون وجود أدلة علمية قوية تنصح بضرورة خضوعهم لجلسات علاج من التوتر ضمن برامجهم العلاجية.