القابلية السودانية للتدخلات الأجنبية!

في مقابلة مع قناة الجزيرة أطلق قيادي بقوى الحرية والتغيير نداء لما أسماهم بالقوى الخيّرة، وسفارات الدول المؤمنة بالديمقراطية، لحماية المرحلة الانتقالية والحكم المدني في السودان. لوهلة تمعنت في ذلك النداء، وغيره من رجاءات الاستنصار بالأجنبي، رغم أنه ربما يكون صادقاً لكنه يعوّل على الخارج متجاوزاً الإرادة الشعبية التي صنعت هذا التغيير، وجعلت العالم كله، يلهث لمواكبة الثورة السودانية، حتى إذا بلغ أنفاسها، أخمدها بالتآمر الماكر، وتولى الذود عن مصالحه فيها، كما رأينا في المبادرات والوساطات الدولية التي عقّدت الأزمة أكثر، وجرَفتها في مسارات بعيدة.
الأزمة في من يَحكُم؟
عقب بيان قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والذي قضى بإعلان حالة الطوارئ، وحل الحكومة، واعتقال بعض الوزراء والسياسيين، امتلأت سماء العاصمة الخرطوم بطائرات الوسطاء، والمبعوثين الدوليين، إلى جانب عشرات المبادرات الخارجية والداخلية، جميعها، محل ترحيب من الفرقاء السودانيين، على الرغم من أنها عقدت الأزمة، وفتحت أبواب المطامع الدولية، لكننا هكذا جُبلنا على عدم الثقة بالنفس، مُفضلين حلول “الخواجات” لسبب ما، حتى وإن جاءت من إسرائيل، التي تولت “المشيخة” في المنطقة عموماً عوض الجامعة العربية.
(الشكّلة) السودانية الحاصلة الأن ليست هي الأولى، وهي في حقيقتها، عادية وطبيعية، تحدث في أرقى العائلات وسط طاولات الطعام، فجميع مشاكلنا الاجتماعية حول الورثة، والسياسية حول السُلطة، وهذا بخلاف مزاعم البرجوازية الصغيرة والنخب المُستهبلة، بأن الأزمة “ليست من يحكُم السودان ولكن كيف يُحكم السودان؟”. لكن الأزمة من دون تجمل وتدليس، هي من يحكُم السودان؟ لأن لدينا إرث مكتوب، وتجربة كافية في الممارسة الديمقراطية، بدأت مع الاستقلال قبل أكثر من نصف قرن، وتجددت بعد ثورتين وانتفاضة مُباركة، عرفنا فيها الانتخابات الحرة والمجالس النيابية، على طريقة وستمنستر، فكيف نستقبل مبعوث دولة أخرى غارقة في العنف والاستبداد، ليهبنا الرشد السياسي، ويدلنا على جادة الصواب؟!
سَلّة مُبادرات العالم
نحن هكذا يا سادة، عندما لا نجد ما نفعله نفتعل أزمة لنمكن الوسطاء من التدخل في شأننا، كما يفعلون هذه الأيام، ويبدو كقابلية غريبة للتدخل الخارجي، والسماح له بدس أنفه في الشأن الداخلي المحض. وقد تجلى ذلك في استنصار نظام البشير بالحماية الروسية، وكذلك الخطاب الذي بعثه رئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك العام الماضي للأمم المتحدة، طلب فيه صراحة إرسال بعثة أممية (سياسية) لضمان نجاح الفترة الانتقالية، ووصلت بالفعل بعثة تُسمى “يونيتامس” بقيادة الألماني فولكر بيرتس، ليذكرنا بالسير روبرت هاو آخر حاكم عام غربي للسودان، ومع ذلك لم يحمي فولكر الانتقال، من الأحزاب المتصارعة على كراسي الحُكم، ولا من توغلات الجيش.
عقب وقوع الانقلاب على بعض أحزاب قوى الحرية والتغيير التي كانت تهيمن على السُلطة وتعيث فيها فساداً، لدرجة عرقلة التحول الديمقراطي وتمديد آجال الفترة الانتقالية، وتجاهل مطالب الشارع، هبط المبعوث الأمريكي فليتمان، ليعلم الناس إدارة شؤون دولتهم، ولحق به وفد الوساطة الجنوبية (توت قلواك)، ومن ثم مبعوث الاتحاد الأفريقي أبوسانغو، فضلاً عن تحركات مبعوث الاتحاد الأوربي آنيت ويبر، ورئيس البعثة الأممية في السودان فولكر بيرتس، حتى وصلت الوساطات الرقم “9”، في محاولة غير جادة لتحقيق توافق بين المكونين العسكري والمدني، جميعها ذهبت أدراج الرياح، وأصبح السودان كأنه “سلة مبادرات ووساطات العالم” بدلاً عن سلة غذاء العالم. لكنها كانت فرصة جيدة للعمل الاستخباراتي، واستمالة أطراف بعينها، تحب العمالة، ويمكن أن تبيع وطنها من أجل فتات الدولارات، أو لتُصفي خصوماتها السياسية، والشاهد على ذلك، كارثة تدمير مصنع الشفاء، ووضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، تلك التجارب المريرة، تورطت فيها شخصيات سودانية، لا تزال تفخر بذلك، للأسف الشديد.
ألاعيب الكائن الهُلامي
من خلال تجربة إجهاض الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا أيضاً، وغض الطرف الدولي عن دوي أحذية العسكر في تلك البلدان التواقة للحرية، بدا واضحاً أنه لا توجد قوى خيّرة في هذا العالم الشرير إطلاقاً، كل يريد حماية حلفائه ومصالحه فقط لا أكثر، ويتدخل بمقدار يحفظ له دوره وأثره في تحريك عجلة الاستبداد على النحو الذي يفضله، ودونك ما يجري في الشرق الأوسط، من قبل المجتمع الدولي، ذلك الكائن الهُلامي، على حد تعبير المثقف السوداني أبكر آدم اسماعيل.
لا يوجد حياد في عالمنا، ثمة قطبية أحادية مهيمنة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب الصين وروسيا اللتين تتخذان من مصالحهما الاستراتيجية كتاباً مقدساً، ولذا يأتي الموقف ونقيضه من منطلق هذا الصراع الرأسمالي، ليحافظ على توازن اقتصاديات الدول الكبرى فقط، وحتى استخدام الفيتو لصالح أي دولة، تقف خلفه أحياناً، دوافع تنافسية أو كيدية، ولذا فإن أصدقاء الديمقراطية والحريات هم أعداؤها عندما تتقاطع مع مصالحهم.