الشهداء.. مبتدأ الثورة المصرية وشعلتها المستمرة

كان من مقدمات الثورة المصرية في 25 يناير 2011، استشهاد الشاب السكندري خالد سعيد، الذي تعرض للتعذيب في قسم الشرطة حتى الاستشهاد، وتلى ذلك الحادث المماثل للشهيد سيد بلال على يد الداخلية، الشهيدان كانا بمثابة شرارة الغضب الشعبي ضد ممارسات الداخلية المصرية، التي كانت سببًا رئيسًا لأن يدعو المصريين للاحتجاج والتظاهر في 25 يناير.
كان استشهاد خالد سعيد وسيد بلال بمثابة تفجير الغضب ضد ممارسات كانت تتم على مدار سنوات، حتى صار الدخول إلى أقسام الشرطة في مصر كأنه دخول إلى سلخانة المذبح، وصار التعذيب لأي مواطن يلجأ إلى قسم الشرطة هو رعب لكل المصريين سواء كانوا مجنيًا عليهم أو جناة.
وقد صوّر المخرج المصري يوسف شاهين في فيلمه الأخير (هي فوضى) ما يحدث في أقسام الشرطة، وكانت نبوءة شاهين بثورة المصريين ضد ما يحدث فيها، حين صوّر في نهاية الفيلم هجوم المواطنين على قسم الشرطة، وكشف ما يحدث فيه، وإنقاذ المواطنين الذين يتعرضون للتعذيب نتيجة وقوفهم ضد ممارسات أمناء الشرطة الذين صاروا أصحاب سلطة خاصة حتى ظهر تعبير (دولة الأمناء).
ربما الملاحظ أن خالد سعيد كان شابًا مصريًا بلا تاريخ سياسي أو ثوري، وهذا كان حال معظم شهداء يناير، الذين كانوا وقود الثورة على مدى عمرها، الذي امتد حتى منتصف أغسطس 2013 بتلك المذبحة التي تمت في ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة بجوار جامعة القاهرة.

فض الاعتصام

انتهت ليلة الخامس والعشرين من يناير بفض الاعتصام الذي بدأ في ميدان التحرير منذ السادسة مساء ذلك اليوم، حيث قامت الشرطة بفض الاعتصام بالمياه والرصاص المطاط والقنابل المسيلة للدموع، وقررت الشرطة عدم السماح بأي تجمع بعد هذا الفض.
كان يوما السادس والعشرون والسابع والعشرون هما يوما الكر والفر في شوارع القاهرة وشوارع المدن الرئيسة في المدن الكبرى الإسكندرية والسويس والمحلة الكبرى –كانت صاحبة أكبر مظاهرة ضد حكم حسني مبارك في 6 أبريل 2008- حيث شهدت تلك المدن مطاردات بين الشباب ومجموعات من الشرطة وخاصة الفرق الخاصة، فكلما حاول المتظاهرون التجمع كانت تلك القوات تطارد الجميع بالعصي، وتقوم بالقبض على الشباب ونقلهم إلى السجون.
استمرت محاولات الكر والفر التي شهدتها في وسط القاهرة، وعلى كورنيش النيل، وأمام ماسبيرو نجوت من أحدها بأعجوبة، بفضل تمرسي على مشاهدة الأفلام القديمة حين كان البطل يهرب من متابعة البوليس السياسي، لم يتمكن الثوار من تكوين كتلة تظاهر واحدة في ظل مطاردات كثيفة، ولكن كانت مدينة السويس في الشمال الشرقي لمصر تحمل قبلة الحياة للثورة البادئة حين سقط في اليوم الثاني شهيدان، فكانا قوة الدفع نحو اليوم التاريخي الجمعة 28 يناير 2011، فقد دعا المصريون إلى جمعة غضب، ويعد هذا اليوم هو الميلاد الحقيقي للثورة المصرية الممتدة حتى تحقيق أهدافها مهما طال عمرها.

الشهداء البسطاء

عادة الشهداء عبر التاريخ الإنساني بسطاء مجهولون، لم نر لهم وجوهًا تملأ الشاشات ولا أصحاب تاريخ سياسي، -وكما الشهداء أبطال الحروب الجنود البسطاء-، لم نكن نعرفهم وربما كانوا أهالي حاراتهم وقراهم وشوارعهم لا يشعرون بمجيئهم أو ذهابهم، هؤلاء الذين كتبوا تاريخًا جديدًا للوطن كما كتبه جنود أكتوبر/تشرين الأول 1973 للأمة العربية، فالقادة في الحروب لا يستشهدون -استثناء فريد كان الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان الجيش المصري الذي استشهد على الجبهة المصرية في مارس 1969- كما أن الزعماء وقادة الحركات لا يستشهدون في التظاهرات والثورات، يستشهد دائمًا المجهولون القادمون من الشوارع الخلفية، والمجد لهم.
توالت الأيام في تاريخ الثورة ودائمًا كان يبهرني هؤلاء القادمون من الخلف أصحاب البطولات التي شهدها يوم جمعة الغضب عبر مسيرات خرجت في كل أنحاء المحروسة، شهد هذا اليوم سقوط أكبر عدد من شهداء أيام الثورة الأولى، لو تأملت أسماء غالبيتهم لن تجد اسمًا كان معروفًا قبل استشهاده، كانت السمة الغالبة عليهم صغر أعمارهم وتعليمهم المتميز، نعم استشهد أناس بسطاء حرفيين وأصحاب تعليم متوسط،  لكن الغالبية كانوا أصحاب تعليم عال وراق من أطباء ومهندسين وفنانين ومدرسين وطلبة في الجامعات (لذا يظل التعليم عدو كل ديكتاتور مستبد).
في الخمسة عشر يومًا التالية لجمعة الغضب كانت التضحيات كبيرة، أطفال في عمر الزهور، صبية لم تتعدَ أعمارهم الثامنة عشر يؤدون مهام لا يقدر عليها الكبار، ولذا لم يكن غريبًا ارتقاء شهداء في هذا العمر، كنا نتأملهم مبهورين بشجاعتهم وقدرتهم على الاستمرار في مواجهة دخان القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاط، وتوالى ارتقاء الشهداء والمصابين ليعطوا قوة للميدان والثورة.

العام المبهر

هكذا مرت الأيام خلال هذا العام المبهر لشباب الثورة المصرية في أبريل، ويوليو، وفي أحداث محمد محمود، وأحداث مجلس الوزراء، كان شهداء تلك الأيام من المصريين البسطاء هم وقود الاستمرار، كم ارتقى بجوارنا في الميدان أبطال وشهداء لا نعرفهم.
فلان الفلاني اللي كان يومها جمبي
ساعة لما بدأوا في ضرب الرصاص
فلان الفلاني اللي معرفش اسمه
فدايمًا بقول يا بن عمي وخلاص.
يظل شهداء الثورة المصرية في يناير 2011، هم وقودها وزادها لتحقيق أهدافها وغاياتها في الحرية والعدالة والكرامة والعيش الكريم، ما زلنا مطالبين بتحقيق تلك الغايات التي استشهد من أجلها أجمل من فينا في كل ميادين الثورة الماضية في الطريق حتى تحقيق ما قامت من أجله، تحية لكل المجهولين من شهداء يناير الذين أناروا وجه الوطن في أجمل أيامه.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان