لماذا يعاقبنا الله تعالى على مخالفة أوامره وهو غنيٌّ عن عقابنا؟ أليس هذا من الظلم؟!

قال لي: أنا لستُ ملحدًا، أؤمنُ أنّ الله تعالى موجود، وهو خالق كلّ شيء، لكنّ عقلي لا يتوقّفُ عن الأسئلة، وأدخلُ في حيرةٍ كبيرة.

جلسَ إليّ ذلك الشّابّ العشرينيّ اللّطيف وفي عينيه كلامٌ كثير، كان يخفي خلف ملامحه الهادئة أسئلةً عديدة، قال لي: أنا لستُ ملحدًا، أؤمنُ أنّ الله تعالى موجود، وهو خالق كلّ شيء، لكنّ عقلي لا يتوقّفُ عن الأسئلة، وأدخلُ في حيرةٍ كبيرة.

أردف قائلًا: عندي الآن سؤالان يؤرّقاني حول المعصية وارتكابِها والجزاء عليها، السؤال الأوّل هو: لماذا يعاقبني الله تعالى إذا لم أفعل ما يريد؟ لماذا يعذّبني إذا لم أصَلِّ ولم أصُم أو لم أنفذ ما أمر به؟ لماذا يدخلني النّار إذا فعلت أشياء أمرني ألّا أفعلها؟ نحن نقول: إنّ الله تعالى لا ينتفع بطاعاتنا وهو غنيّ عنّا؛ فلماذا يعذّبنا إذن على شيءٍ فعلناه ولا أثر له عليه، ألا يُعدّ ذلك من الظّلم؟!

  لو لم يضع التشريعات والقوانين لما كان إلهًا

قلت له: ما دمنا متّفقين على أنّ الله تعالى هو الذي خلقنا، وأنّه إلهُ هذا الكون، فدعني أسألك سؤالًا: تخيّل لو أنّ شخصًا قويًّا أنشأ دولةً وبسط نفوذه وسيطرتَه عليها، وأصبح الحاكم لها، ثمّ تركها دون أن يضع لها القوانين والنظم الإداريّة التي تحكم حركة الأفراد الذين يسكنونها ويبسط سيطرته عليهم؟ هل هذا يُعدّ علامة كمالٍ في ملكه أم نقص؟

قال لي: بل علامة نقص، يكون حاكمًا جاهلًا أو ضعيفًا.

فقلت له: إن كان هذا يُعدّ نقصًا في حقّ الإنسان المجبول على النّقص، فكيفَ يكون في حقّ الله تعالى المتصف بالكمال المطلق؟

إنّ من لوازم كمال الألوهيّة ألّا يترك الخالق خلقَه عبثًا دون أن يضع لهم من القوانين والنّظم والتشريعات ما يُصلح أحوالَهم وينظّم شؤون حياتهم.

وهذا معنى قول الله تعالى في سورة “المؤمنون”: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}

يتعالى الله عزّ وجلّ على أن يكون قد خلق الخلق عبثًا بغير قصد، أو تركهم عبثًا بغير نظام، فلو أنّه فعل ذلك لما كان إلهًا أصلًا.

فقال لي صديقي الشّاب مقاطعًا: ولكن هناك تشريعات وعبادات وقوانين لا نفهم لماذا أنزلها الله تعالى وأمرنا بها؟ فلماذا عليّ أن ألتزم بها؟

فقلت له: الذين يضعون القوانين في الدّول اليوم هم بشرٌ مثلنَا، وعندما يضعون هذه القوانين فإنّهم يقصدون بها مصلحة الإنسان، أليسَ كذلك؟ قال: بلى، لكن هذه القوانين مفهومة ونستطيع أن نفهم لماذا تمّ وضعها، فالأمر مختلف، فقلت له: مهلًا عليّ يا صديقي، هل تتفق معي أنّ مغزى كلّ هذه القوانين ليسَ مفهومًا عند كلّ النّاس ومع ذلك فإنّهم ينفّذونها؟ قال: أتفق معك في هذه، فأكملت قائلًا: إنّ النّاس عندما يرونَ أغلبَ القوانين مفهومة المعنى تحقّق مصلحتهم فإنّ الثّقة تستقرّ في نفوسهم أنّ هؤلاء المشرّعين أرادوا أيضًا مصلحتهم في تلكم القوانين التي لم يفهموا مغزاها فتدفعهم الثّقة إلى الالتزام بها.

ثمّ قلت له: يا صديقي، إنّ هذه الثّقة نمنحها لبشرٍ مثلنا لقناعتنا أنّهم يبحثون عن مصلحة الإنسان عندما يضعون القوانين، فماذا ينبغي أن يكون موقفنا إن كنا نعلم أنّ الذي يضع هذه القوانين والتشريعات التي هو في غنى عنها وإنّما يضعها لأجلنا نحن هو الله تعالى الذي خلق الإنسان ويعلم علمًا مطلقًا مكوّناته من جسدٍ وعقلٍ وروح ويعلم علمًا مطلقًا ما يُصلح كلّ مكوّن من هذه المكونات وما يضرّها؟

ألا ينبغي أن تكون الثّقة المطلقةُ هي الموقف المنطقيّ الذي يستقرّ في عقولنا وأعماقنا تجاه القوانين والتّشريعات التي أمرنا بها الله تعالى وهو الذي يعلمنا علمًا مطلقًا، وهو أيضًا الحكيم حكمةً مطلقةً فلا يشرع ما فيه نقص أو خلل أو زلل؟

وهذا معنى السّؤال التقريريّ في قوله تعالى في سورة الملك: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} إذ لو لم يكن يعلم من خلقهم، ويعلم ما يصلح حالهم ويُنزل من القوانين والتشريعات ما يُصلح أحوالهم لما كان إلهًا أصلًا.

 لو لم يعاقب المخالفين لكان ظالمًا

قلت للشّاب الجالس وهو يتناول قهوته وينظر إليّ بإقبال: تخيّل لو أنّ عندك سيّارة، وصاحبك عنده مثلها، وبقيتَ أنت على مدار السّنة ملتزمًا بقوانين السّير التي تعتقد أنّها شُرعت لمصلحتك ومصلحة النّاس، فكنت تقف عند إشارة المرور، وتضع حزام الأمان، وتتقيّد بحدود السّرعة، وغير ذلك من قواعد وقوانين السّير، أمّا صاحبك فلم يتقيّد بذلك مطلقًا، فلم يقف على إشارة مرور، وكان يسير عكس السّير وفي الطرق الممنوعة ويرتكب العديد من المخالفات.

في نهاية العام ذهبتما معًا للقيام بإجراءات الترسيم الإداريّة السّنوية التي يتم عندها عادةً تقاضي المخالفات ممن تهرّبوا منها خلال العام، ولكنّك فوجئت أنّه لم يترتّب على صديقك هذا أيّة مخالفة ولم يُسطّر بحقّه أيّة عقوبة ولم يُتخذ ضدّه أيّ إجراء، فما شعوركَ في تلك اللحظة؟

قال لي صديقي الشّاب: هذا ظلم، فقلت له: تمامًا يا صديقي، إنّه ظلمٌ واضح لك أن تلتزم بالقوانين ثم ترى أنّ من لم يلتزم بها معك في المرتبة ذاتها.

ولو أنّ عقوبةً تمّ إيقاعها على صاحبك فهل كنت ستقبل أن يقول صاحبك لدائرة المرور: أنتم تظلمونني لأنّكم تعاقبونني وأنا فعلت أشياء لا تؤثّر عليكم أنتم، ولم أقم بأيّ حادث سير خلال السّنة رغم كلّ المخالفات؟ فقال صديقي: لا، بل سأعتبر أنّ من العدل أن تتم معاقبته.

فقلت له: هذا الموقف هو ذاتُه يا صديقي ما سيكون يوم القيامة، فلو أنّ الله تعالى عامل من التزموا بأوامره وتشريعاته وقوانينه المعاملة ذاتها لمن عصوا الأوامر وارتكبوا المنهيّات لكان هذا عين الظلم، فهكذا تغدو معاقبة المخطئ العاصي عين العدل.

ثمّ قلت: دعني أسألك يا صديقي العزيز قبل أن تسألني أنت ولماذا يحاسبنا أصلًا؟ لو أنّ حاكمًا ما في دولةٍ ما أصدرَ قرارًا يقضي أنّ القوانين والتشريعات موجودة وباقية على حالها لكن لا يترتب على تنفيذها جزاء، ولا على مخالفتها عقوبة، فكيفَ سيكون الحال في هذه الدولة؟

قال صديقي: ستكون فوضى كبيرة، وسيفرّ منها النّاس إلى دول أكثر أمانًا وانضباطًا، فقلت له: أحسنت التوصيف، وهذا هو حال البشريّة عندما تفقد القوانين والتشريعات قيمتها بفقدان ما يترتب عليها من مآلات الجزاء والعقاب، ولو أنّ الله تعالى لم يشرع هذه القوانين ولم يرتّب عليها مآلاتها من جزاء وعقاب لعاش الناس في فوضى وظلم وانتهاك للحرمات، ولكانت النتيجة أن يفرّوا من الإيمان بهذا الإله إلى حيث يجدون ما يحقق لهم الأمن والنظام والانضباط في التشريعات، ولكان عدم المحاسبة والمعاقبة على المخالفات والمعاصي سببًا في فرار النّاس من الإيمان لأنّ النّاس بطبعها تأنف الظلم وترفض الفوضى والعبث، وهكذا تكون معاقبة الله تعالى للعصاة والمذنبين عنوان الرّحمة المطلقة من الله تعالى كما هي عنوان العدل المطلق.

عدّل صديقي جلسته، وابتسم ابتسامة رضا عريضة، وقال: أشكرك على هذه الإجابة، وبقي السّؤال الثّاني وأرجو أن تحتملني فيه، فقلت له: سل ما شئت بلا أدنى حرج، فقال: إذا كان الله تعالى قد كتب لنا أن نعصيه، وقدّر علينا المعصية، ومعاصينا مكتوبة في اللّوح المحفوظ، فكيف يعاقبنا الله تعالى على ارتكاب معاصٍ كتبها لنا وقدّرها علينا وارتكبناها بإرادته؟ أين العدلُ في هذا؟

أكملُ حواري مع صديقي الشّاب، وأجيبُ عن سؤاله هذا -بإذن الله تعالى- في المقال القادم.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان