الميزان المفقود.. قراءة قرآنية في سقوط العدالة الدولية

في عالمٍ تتزاحم فيه شعارات الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، تبدو المفارقة صارخة حين تصطدم هذه الشعارات بالواقع الميداني. وبعد أن توقفت آلة الحرب وهدأت أصوات القصف مؤقتا لا تزال غزة تقف لا بوصفها جغرافيا محاصَرة فحسب، بل باعتبارها مرآةً تعكس حجم التشوّه في القيم والمعايير التي يحكم بها النظام الدولي، ومعه منظومة “القانون” التي أصبحت تخدم القوة أكثر مما تخدم العدالة.

وسط هذا الضجيج، يتبدى سؤال جوهري: ماذا تبقّى من “الميزان” الذي وضعه الله حين رفع السماء، وأمر ألّا يُطغى فيه؟

الميزان في القرآن.. مفهوم يتجاوز القانون

إن العدالة، في ضوء المفهوم القرآني، ليست إجراءً قانونيًّا أو خطابًا أخلاقيًّا عابرًا، بل هي جوهر النظام الكوني، وأساس قيام المجتمعات، وضمانة بقاء الحضارات.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

في ضوء هذه الرؤية، تحاول هذه المقالة أن تقرأ تهاوي المعايير المعاصرة، من خلال عدسة قرآنية وسياق حضاري يربط بين السيرة النبوية ومآلات الواقع العربي والإسلامي.

يقول الله تعالى في سورة الرحمن: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}.

الميزان هنا ليس مجرد كفّتي عدل أو ميزانٍ تجاري، بل نظامٌ كوني وأخلاقي مُنزَل من الله، يُضبط به التوازن في الكون، كما يُضبط به التوازن في العلاقات الاجتماعية والسياسية. فهو، كما يقول المفسرون، معيار العدل الذي لا يستقيم الكون بدونه.

ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.

فالميزان أُنزِل مع الرسالات، وأصبح شرطًا لقيام “القِسط”، أي العدل التام، الذي لا يُراعي الهويات والانتماءات بقدر ما يُراعي الحق.

وإذا كانت الحضارة الغربية قد اختزلت العدالة في القانون الوضعي، فإن المفهوم القرآني أوسع وأشمل، ولا يستثني الجوانب الأخلاقية والفطرية، ولا يُفصل بين التشريع الإلهي والحسّ الإنساني. فالعدل، في التصور القرآني، ليس خاضعًا لمعادلات القوة أو موازين المصالح، بل سابقٌ عليها، ومُوجّهٌ لها.

الميزان في التاريخ الإسلامي.. من الوحي إلى الواقع

لقد أدركت الأمة الإسلامية، في مراحل ازدهارها، أن العدالة ليست خيارًا سياسيًّا، بل ضرورة شرعية. فمنذ اللحظة التي أقام فيها النبي ﷺ دولة المدينة، وُضع الميزان في قلب المشروع النبوي.

لم تكن المواطنة في الدولة النبوية حكرًا على المسلمين، بل ضمّت اليهود والمشركين، وفق “صحيفة المدينة” التي شكّلت أول دستور مدني في التاريخ، يقوم على “الحق” لا على “الولاء العقدي” فقط.

وقد سار الخلفاء الراشدون على هذا النهج. ففي عهد عمر بن الخطاب، لما اعتدى ابن والي مصر على قبطي، قال له الخليفة قولته الخالدة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”.

لم يسأل عن ديانة القبطي، ولم يتردد في محاسبة الوالي، بل جعل الميزان هو الفيصل.

وفي التاريخ القضائي الإسلامي، كان القاضي يحكم على الخليفة إذا لم يحضر دعواه كما ينبغي، كما فعل شُريح القاضي مع عمر نفسه، أو كما جرى حين حُكم على علي بن أبي طالب لصالح خصمه اليهودي، لأن البينة كانت غائبة، رغم أن عليًّا كان أمير المؤمنين!

سقوط المعايير في زمن الهيمنة

إذا كان الميزان قد غاب في بعض مراحل التاريخ الإسلامي، فإنه في عصرنا الحديث قد سُحق تحت أقدام القوة الغاشمة.

فالعالم الذي صدّر لنا خطابات حقوق الإنسان، هو ذاته الذي يصمت عن جرائم الحرب التي تُرتكب في العصر الحديث، وأبرزها ما حدث في فلسطين وغزة؛ إذ يُبرَّر قصف المستشفيات، وتجويع المدنيين، وقطع الماء والكهرباء عن شعبٍ بأكمله. فكيف يمكن تبرير الدمار، وقصف المدنيين الآمنين؟ وبأي ميزان يُوصَف الدفاع عن الأرض ومقاومة الاحتلال بأنه “إرهاب”، بينما يُمنَح المعتدي صكوك الدفاع عن النفس؟

ومع اختلال الميزان، لم يعد اختلال المعايير حادثًا طارئًا، بل صار “نظامًا دوليًّا” مستقرًّا، يستبطن التمييز، ويقنِّن الظلم، حتى تحوّلت العدالة إلى رفاهية خاصة بالقادرين على فرضها، وأصبحت الحماية للقتلة، بينما يُترك المظلوم بلا نصير.

وفي الإعلام، تُسرد الرواية من زاوية واحدة، ويُشيطَن الضحية، ويُجمَّل المعتدي.

من السيرة النبوية إلى غزة.. موازين تتكرر

في غزوة الأحزاب، حوصرت المدينة من قوى متعددة، كما حوصرت غزة اليوم. كان الموقف عصيبًا، حتى قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}.
لكن المؤمنين قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.

كان الفرق في الميزان: ميزان الثقة بوعد الله، والثبات على المبدأ، وإن خذل العالم.

وكما اتُّهم النبي ﷺ بإثارة الفتنة، ووُصِف بأنه يفرّق بين الناس، يُوصَف اليوم من يدافع عن الحق الفلسطيني بأنه “متطرف” أو “معادٍ للسامية”.

لكن الحقيقة لا تتغير بتغيير التوصيف. فالنبي قاتل من أجل إقرار العدل، لا من أجل التوسّع. ودافع عن اليهود المظلومين، كما دافع عن المسلمين، ما داموا تحت “ميزان الحق”.

حين يُقاس الإنسان بعدد المتابعين، أو بقيمته السوقية، أو بموقعه الجيوسياسي، فإننا نعيش عصر “تشييء الإنسان”.

في غزة، على سبيل المثال، لا يُنظر إلى الضحايا على أنهم أشخاص لهم كرامة، بل مجرّد “أرقام” تُحصى. تُجَرَّد الأمهات من أصواتهنّ، وتُختصر البيوت المهدّمة في “أضرار جانبية”.

هذا الانحدار في التصور لا يعني فقط سقوط العدالة، بل انهيار جوهر الإنسانية نفسها.

الميزان لا يُختبَر في محكمة قانون، بل في الشارع، وفي الميدان، وفي لحظة القرار. والمجتمع الدولي، بكل مؤسساته، فشل فشلًا ذريعًا في هذا الاختبار.

استعادة الميزان ودور النخبة في زحام التيه

إعادة الميزان ليست مهمةً خطابية، بل مشروعٌ نهضوي، يبدأ بإعادة تعريف العدل بوصفه قيمة إنسانية فوق الأيديولوجيات.

لا بد من استنهاض الوعي الإسلامي، لا بوصفه ردًّا، بل مبادرة فكرية تُعيد للإسلام دوره الحضاري، وتبني نموذجًا للعدالة يُحتذى به.

إن العودة إلى الميزان ليست استدعاءً للتراث، بقدر ما هي استلهامٌ لمسارٍ يُمكّن المجتمعات من بناء دولٍ تحكمها المبادئ لا المصالح، والمساواة لا الاصطفافات.

في هذا المشهد المنكسر، يصبح على النخبة -علماء، ومفكرين، وإعلاميين- مسؤوليةٌ مضاعفة. ليس كافيًا تحليل الواقع، بل يجب المساهمة في تغييره؛ لأن السكوت تواطؤ، والمواقف الرمادية لا تُقيم ميزان العدل.

كما قال النبي ﷺ: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمّهم الله بعقاب من عنده”.

الميزان هو الخلاص

إن العالم الذي تُداس فيه كرامة الإنسان ويسفك دمه دون محاسبة، هو عالم فقد الميزان، وتنكّر للعدل، وتناسى الله الذي قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان}.
لكنّ فقدان العدالة لا يعني نهاية القصة، بل هو بداية الوعي.
إن “الميزان” ليس شعارًا دينيًّا، بل نداء إنساني جامع، يجب أن يُسمع في كل مؤسسات الفكر، وكل محافل الإعلام، وكل ساحات المقاومة.
وفي صراع يُراد له أن يُختصر في “صراع حدود”، يجب أن يُعاد تعريفه بوصفه صراعًا من أجل إعادة الميزان إلى الأرض.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان