عرب ما بعد غزة

بإعلان نوايا “إنهاء حرب غزة”، بصرف النظر عن تعقيدات التطبيق وغموض المراحل التالية والمكاسب والخسائر، أصبح لدينا فسحة للتفكير كعرب في دروس طوفان الأقصى وما بعده؟ وهذا دون الوقوع في مبالغات مستهلكة لنحو نصف قرن بعناوين: “آخر الحروب” و”الرخاء العميم”.
جبهة الفكر
اليوم نحن في حاجة لإعمال العقل وإيقاظ الضمائر من أجل مراجعات لا مفر منها، وأصبح على شركاء الوطن والمقاومة بين الإسلاميين إعادة النظر في شعارات ومفاهيم “الدولة الدينية” وخيرية المسلمين وأفضليتهم عن غيرهم، وما تولده من حواجز.
والسؤال هنا: كيف نتخلص كمسلمين وعرب، استعدادا لجولة جديدة من مكافحة الصهيونية، مما يشابه أو يتماهى مع إدعاءاتها ومقولاتها العنصرية: الدولة اليهودية ودولة اليهود وشعب الله المختار والاستغلال السياسي للدين اليهودي؟
وهل يتقدم إسلاميون أحرار مقاومون، تضحياتهم مقدرة، اتجاه كل إنسان مع الحياة والحرية من أجل غزة وفلسطين والمقاومة، وبينهم يهود، باحترام ومساواة وصدق؟ وهذا بعدما أسقط الحراك العالمي، بمختلف القارات والمجتمعات والانتماءات، العصبية العمياء للدين والقوميات، فتعرفنا ببشر مع غزة وتحرير فلسطين، لا ينطقون بلساننا ولا يؤمنون بإسلامنا أكثر عطاء وإخلاصا، ولا تخالف أفعالهم أقوالهم من مسلمين وعرب، بل وفلسطينيين.
كما زاوج بين الإنساني والسياسي الوطني، فلا تعارض بينهما في النظر إلى قضيتنا الكبرى، وكذا أبدى الاحترام المقدر للإسلام ونضالات المسلمين والإسلاميين الوطنيين، متقدما صفوف مكافحة الإسلاموفوبيا.
بالمقابل، هل يعيد من خاصموا الإسلاميين، على اختلاف انتماءاتهم وتسمياتهم، اكتشاف الطاقة الإيجابية في الإسلام من أجل المقاومة والوطنية والحرية؟ ويدركوا ويعترفوا، دون تجنٍّ أو مزايدة أو مكابرة، بأن لدينا إسلاميين يضحون من أجل الأوطان، وبأن التناقض ليس حتميا بالضرورة ودواما يحول بينهم والوطنية، وكون التعايش واجبا بين الجميع، وليس ممكنا فقط.
ولعل إعادة اكتشاف قيم الحرية والتحرر والإنسانية بمثابة نقطة الالتقاء بين هؤلاء وأولئك، في سياق مجتمعات عربية يتأكد على ضوء محنة غزة أنها لم تستكمل التحرر من الاستعمار أو تحرير مواطنيها من الاستبداد وآثاره الكارثية.
على جبهة الضمير أيضا
لا يتصور المرء أن نظل متأخرين متخلفين في تقدير واحترام إنساننا وقدسية حياته، وهنا نحتاج إلى مراجعات كبرى، فهل من المعقول أو المقبول أن يظل هذا الإنسان في حروبنا لليوم أقل أهمية وقيمة من أحياء ورفاة أموات “المستعمر الإسرائيلي”؟
وهل من المعقول أو المقبول، بنهاية الربع الأول من القرن 21، الاستمرار في اتفاقات لا تلتزم بشرائع ومواثيق المساواة بين البشر؟ ومفهوم أن معركة احترام قدسية الإنسان عندنا تتطلب خوضها داخل مجتمعاتنا، وإزاء كل سلطة تعتدي عليها أو تنتقص منها، أو لا تعترف بالمواطنة والمساواة بين مواطني الدولة الواحدة.
تحتاج المقاومة المسلحة، في جولاتها القادمة، إلى مراجعة شجاعة ونقدية لتأمين سلامة البيئة المدنية، حتى لا تتحمل كل هذه الخسائر جراء غياب وسائل دفاع وحماية المدنيين.
وهذه ليست دعوة للتخلي عن حق شعب تحت الاحتلال في مواجهة مستعمريه بالسلاح والعنف، المشروع تاريخيا وبالمواثيق الدولية، لكن أصبح من واجب الغد، وبين مهام جيل مقاوم قادم لا محالة، البحث عن حلول لتقليل الخسائر بين المدنيين والبيئات الحاضنة للمقاومة والمحيطة بها، وتوفير سبل الحماية، لا مجرد الاستمرار في الصمود الميداني القتالي والمدني، وفي خبرات الشعوب يبرز خيار تسليح الشعب للدفاع عن نفسه، ويمكن ابتداع أساليب أخرى مستقبلا.
ولا أريد مغادرة مربع الفكر والضمير دون الإشارة لحاجتنا لبناء وتطوير مؤسسات موازية ومستقلة لدراسة الصهيونية وتوثيق جرائمها والتنوير بطبيعتها ومخاطرها وتاريخها وتطوراتها، ولأن ما بعد غزة يفتح مرحلة جديدة خطيرة في الاتجاه المعاكس تستهدف مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة بضغوط وإملاءات غير خافية.
حقائق السياسة وآفاقها
على جبهة السياسة، هل نتجاهل أن صمود المقاومة المقدر بأضعف الإمكانات يقابله عدم انهيار إسرائيل في أطول حرب تخوضها وعلى جبهات متعددة، وأنها ما زالت تتفوق عسكريا، وبالأخص جوا ومخابراتيا وتكنولوجيا، وبدعم معلن غير محدود من قوى الرأسمالية العالمية، وبالأخص الولايات المتحدة؟
إذن ألا نعيد النظر في قناعات قرب نهاية إسرائيل؟ وقد أعادت حرب غزة، جراء اختلال الموازين في الميدان والواقع، الزخم إلى الرهان على غيبيات أو أقوال مأثورة، نكررها منذ عقود، وكأن هذا الزوال قدر الغد، ومن دون العمل والعلم والأخذ بالأسباب في المجالات كافة وتغييرات جذرية داخل مجتمعاتنا، وبناء تحالفات عالمية.
من قبيل تحصيل الحاصل، القول بأن غزة 23 / 2025 تمثل انكشافا جديدا كبيرا لاتساع المسافة بين السلطات والناس في عالمنا العربي، وأن رهان هذه السلطات، أو معظمها، في إبقاء احتكار السلطة والثروة يظل أولًا على مراكز النفوذ الأمريكية الإسرائيلية الصهيونية، لا على شعوبها ومواطنيها، أو ما يسمى “بالرضا العام”، أو حتى اعتبارات الأمن القومي للدول.
حقًا كان أداء النظام الرسمي شديد البؤس والخذلان، ولننظر أيضًا كيف صمد التطبيع؟ بل وتوسع بعدد من الدول العربية. وكيف عاد انفراد الوسيط الأمريكي المنحاز الشريك في العدوان؟
لذا كيف ستكون تداعيات هذا الانكشاف الخطير على مجتمعاتنا من الداخل؟ وفرص التغيير أو الإصلاح، أو بتغول الاستبداد والتسلط المدعوم صهيونيًا؟
وألسنا بحاجة لأجندة أولويات جديدة تضغط من أسفل إلى أعلى؟ تعيد ربط الديمقراطية وتحرر إنساننا باستكمال تحرير أرضه وإرادة دوله من الاستعمار المباشر وغير المباشر.
وكيف نعزز فرص تقوية الشباب والنساء ومنظمات المجتمع المدني من أجل التغيير أو الإصلاح وتفاعل أفضل مع هذا العالم الذي وقف مع نضال غزة؟
معارك متعددة
حسنت النوايا أم ساءت، يدخل النظام الرسمي الآن معارك متعددة في ظل اختلال التوازن لصالح إسرائيل، فهل يحاول تحسين شروط الاستسلام للهيمنة الأمريكية الصهيونية على الإقليم؟ وما الذي يمنعه ويحصنه من تراجع آخر عن الحقوق الفلسطينية والعربية الأساسية في الأرض والسيادة والكرامة الإنسانية المعترف بها دوليا؟
وهل يستسلم تماما لإعادة إنتاج أوهام دولة فلسطينية بدون الانسحاب من الأرض وتصفية الاستعمار والاحتلال والعنصرية والفاشية الصهيونية أولا، أم يستدعي ما بداخله من قوى وإمكانات لمنع إهدار المزيد من الزمن والأرض والحقوق؟
وهذا يقودنا لأسئلة آنية حول فتح المعابر إلى غزة وفك حصار 17 عاما عنها، وهل يقبل النظام الرسمي بتوريطه في مهمة اجتثاث المقاومة ونزع سلاحها؟ وأن يحمل عن الجنود الأمريكيين عبء مواجهات تخشاها واشنطن فوق أرض محاصرة محتلة، وألا يخشى من هذا التورط، لا قدر الله، على داخل مجتمعاته؟
أخيرا، هل يمتلك النظام الرسمي العربي إرادة سياسية وهامش مناورة على خريطة القوى الإقليمية والدولية، تمنحه مرونة حركة في مواجهة تداعيات الهيمنة الصهيونية الأمريكية الإسرائيلية؟
في مقال بموقع مجلة “دبلومات” لشئون آسيا الصادرة بالولايات المتحدة، مقال للباحث الإيراني “بهروز أياز” 13 أكتوبر/تشرين الأول 2025 بعنوان: “كيف غيرت حرب غزة تصورات النخب العربية للصين؟” إجابة تفيد أن النخب أصبحت ترى بمثالية أقل وواقعية أكبر في بيجين أداة للتوازن وإدارة للتبعية بشروط أفضل دون الإضرار بالعلاقات مع واشنطن، فمحنة غزة تشير إلى أن الصين عملاق اقتصادي ما زال قزما على صعيد استراتيجيات السياسة الدولية.
أسئلة وأمور كثيرة تنتظر المستقبل.
