موسم الهجرة إلى أرض المعادن النادرة

لم يكن مصطلح «المعادن النادرة» متداولًا بكثرة في الصحافة العالمية قبل سنوات، وكان مقتصرًا على أخبار المناجم واكتشافات التعدين، ثم انتقل منها إلى صفحات التكنولوجيا والعلوم، ومنها زحف إلى أبواب المال والأعمال التي تسلل منها أخيرًا إلى صفحات السياسة وعوالم الدبلوماسية المرتبطة بالاتفاقات الاقتصادية والصراعات التجارية.
وتسمية «المعادن النادرة» ليست دقيقة، نظرًا لوجود هذه المواد في أنحاء قشرة الأرض، وهي أكثر وفرة من الذهب، لكن استخراجها ومعالجتها صعب ومكلف، كما أنها مختلطة غالبًا بعناصر أخرى وتحتاج إلى عمليات ضارة بالبيئة لفصلها.
أداة الحرب التجارية
مع تزايد الطلب على المعادن النادرة في الصناعات العسكرية والتكنولوجية مطلع القرن العشرين، تسابقت القوى الاستعمارية في السيطرة عليها وتأمينها، ثم أصبحت في السنوات الأخيرة أداة مهمة في الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية. وكانت عنوانًا بارزًا في تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد عودته إلى البيت الأبيض مطلع هذا العام، حين تحدث عن أوكرانيا وكندا الغنيتين بالمعادن النادرة، وعن رغبته في شراء جزيرة «غرينلاند» التي تتمتع باحتياطيات كبيرة من المعادن النادرة.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4أوروبا على صفيح ساخن.. فضيحة فساد أوكرانيا تهز برلين وتربك زيلينسكي
- list 2 of 4الانتخابات في مرآة السينما: من بخيت وعديلة إلى رشدي الخيام!
- list 3 of 4كيف شكّلت إسرائيل شبكة من المثقفين المزورين؟!
- list 4 of 4من هولاكو إلى تل أبيب: إعادة إنتاج التوحش
وفي جولة الرئيس ترامب الحالية بقارة آسيا، أصبحت المعادن النادرة عنوانًا بارزًا في اتفاقه الاقتصادي مع رئيسة وزراء اليابان «ساناي تاكايتشي»، وفي محادثاته مع الرئيس الصيني «شي جين بينغ».
فما قصة المعادن النادرة؟ ولماذا تُعتبر عنصرًا حاسمًا في الحرب التجارية؟ وما أفضلية الصين في هذه المعركة؟ ولماذا يبدي الرئيس الملياردير ترامب اهتمامًا خاصًا بتأمين استيراد بلاده للمعادن النادرة أو ضخ استثمارات وعقد شراكات مع الدول التي تنتجها؟
الأرض النادرة
اكتُشفت أول أرض تحتوي على عناصر معدنية نادرة (rare earth) عام 1794 على يد الكيميائي «يوهان غادولين» في مدينة «توركو» التي كانت تابعة للسويد وتقع الآن في فنلندا. وقد أثبتت التحليلات المعملية أنها تحتوي على عناصر غير معروفة سابقًا ونادرة، وبدأ استخدام المصطلح منذ ذلك الوقت بمعنى «المعادن النادرة».
كان «غادولين» أستاذ الكيمياء والفيزياء في أكاديمية توركو الملكية السويدية، وفتح اكتشافه لعنصر الإيتريوم الباب أمام اكتشاف باقي العناصر النادرة خلال القرن التاسع عشر. ظل المصطلح حبيس الأوساط العلمية والمختصين في الكيمياء والتعدين، بعد أن حدد العلماء سبعة عشر معدنًا أصبحت تمثل ما يدل عليه المصطلح.
العناصر السبعة عشر
وفق تحديد علماء الكيمياء، فإن المعادن النادرة هي مجموعة من 17 عنصرًا كيميائيًا تدخل في العديد من الصناعات الحيوية، وهذه العناصر هي: السكانديوم، اللانثانوم، السيريوم، البراسيوديميوم، النيوديميوم، البروميثيوم، الساماريوم، اليوروبيوم، الغادولينيوم، التيربيوم، الديسبروسيوم، الهولميوم، الإيربيوم، الثوليوم، الإيتربيوم، اللوتيتيوم، والإيتريوم.
وتُمثّل هذه المعادن أهمية استراتيجية كبرى في الاقتصاد العالمي، إذ تدخل في الصناعات العسكرية، والأسلحة والذخائر، والإلكترونيات، والهواتف الذكية، والطاقة النظيفة، والطب، والاتصالات، والبطاريات النووية والعادية، والعدسات، والزجاج، والسيارات، والمغناطيسات المقاومة للحرارة، ومحركات الطائرات، وتوربينات الرياح، وشاشات «إل.إي.دي» (LED)، ومصابيح الفلورسنت، وأجهزة التصوير، والرنين المغناطيسي، والليزر، والألياف البصرية، وسبائك الفولاذ، والمحفزات الكيميائية، والموصلات، وحتى علاجات السرطان.
الاستعمار القديم
التفتت القوى الاستعمارية الكبرى في النصف الأول من القرن العشرين إلى أهمية المعادن النادرة، وكانت ساحة صراع مكتوم لكنه مستمر بين تلك القوى. وتخلص الباحثة الأمريكية «جولي ميشيل كلينغر»، المتخصصة في الجغرافيا السياسية بجامعة بوسطن، إلى أن التحكم في هذه المعادن كان جزءًا من مشروع إمبريالي عالمي وساحة صراع واضحة.
وقد نشرت «كلينغر» دراسة مهمة بعنوان «الجغرافيا التاريخية للمعادن النادرة.. من الاكتشاف إلى العصر الذري» في عدد مارس/ آذار 2015 من The Extractive Industries and Society (مجلة الصناعات الاستخراجية والمجتمع). وتمزج الدراسة بين التحليل التاريخي والجغرافي والسياسي للمعادن النادرة منذ اكتشافها وحتى حقبة الحرب الباردة.
واعتبرت الدراسة أن بدايات القرن العشرين شهدت تبلور المعادن النادرة ليس كقيمة صناعية فقط، بل كرمز للهيمنة العلمية والسياسية على المستعمرات ومناطق نفوذ القوى الكبرى.
خلال النصف الأول من القرن العشرين كانت بريطانيا القوة الصناعية والعسكرية الأبرز في العالم، واستخدمت عناصر مثل السيريوم واللانثانوم في صناعة العدسات البصرية الدقيقة والمصابيح والمحفزات الكيميائية، واستعانت بموارد مستعمراتها في الهند وأستراليا لتأمين المعادن النادرة الداخلة في الصناعات العسكرية مثل أجهزة الرؤية الليلية والمعدات الكهربائية للأسلحة.اهتمت الإمبراطورية الألمانية بتمويل أبحاث حول استخدام المعادن النادرة في الإلكترونيات والبصريات العسكرية قبل الحرب العالمية الثانية، وركزت على استخدام الإيتريوم واليوروبوم في تطوير أجهزة كشف الأشعة الدقيقة. وبعد صعود النظام النازي بقيادة أدولف هتلر (1933–1945)، ارتبطت هذه الأبحاث بالمجمع الصناعي العسكري، ولم تتوقف خلال الحرب العالمية الثانية.
لقد اعتمدت فرنسا على مستعمراتها الإفريقية والآسيوية للحصول على الرمال التي تحتوي على العناصر النادرة، وشاركت مع بريطانيا في تطوير تقنيات استخلاصها في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، واستخدمتها في صناعة مصابيح الغاز وأدوات الرؤية بالأسلحة.
وذكرت دراسة «كلينغر» أن اليابان سعت إلى السيطرة على شمال الصين ومنغوليا الداخلية في الثلاثينيات لتأمين موارد المعادن النادرة، فأنشأت حكومات عميلة وشركات تنقيب، وسيطرت على مصانع الذخيرة والصناعات الثقيلة في شمال الصين.
الانتباه الأمريكي والحضور الصيني
منذ أوائل القرن العشرين، انتبهت الولايات المتحدة للأهمية الاستراتيجية للمعادن النادرة، فموّلت أبحاثًا لاستخدامها في أنظمة الإضاءة والسبائك المتقدمة، وفي الثلاثينيات بدأت ترى فيها مكوّنًا أساسيًا للصناعات العسكرية، وهو ما تمخض لاحقًا عن هيمنة أمريكية على السوق العالمي من الستينيات حتى عام 2000، عندما صعدت الصين لتُهيمن على نحو ثلثي الإنتاج العالمي للمعادن النادرة، ما جعل واشنطن تسعى لتأمين مصادر بديلة عبر اتفاقات وشراكات دولية.
ولم تتخلف الصين عن الاهتمام بالمعادن النادرة شأن القوى الكبرى، لكنها برزت بقوة في إطار نهضتها الاقتصادية خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وأسست عام 1922 «الجمعية الجيولوجية الصينية» لحماية السيادة المعدنية والجيولوجية. وبفضل اتساع أراضيها الجغرافية وتنوعها الجيولوجي والعمالة الرخيصة، هيمنت الصين على الإنتاج العالمي من المعادن النادرة في العقدين الأخيرين.
ودفعت هيمنة الصين على سوق المعادن النادرة الولايات المتحدة إلى تسريع عقد اتفاقيات لتنويع سلاسل الإمداد وتقليل الاعتماد على الصين. ففي أبريل/ نيسان الماضي، وقّعت الولايات المتحدة وأوكرانيا اتفاقية تسمح لواشنطن بالوصول إلى المعادن النادرة مقابل صندوق استثماري لإعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب.
وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، وقّعت الولايات المتحدة مع باكستان صفقة بقيمة 500 مليون دولار، تسلمت واشنطن بموجبها الدفعة الأولى من المعادن النادرة. أما الصفقة الكبرى فقد أبرمتها قبل أيام مع أستراليا، لتأمين سلاسل الإمداد بقيمة 8.5 مليار دولار، إذ تعتبرها مصدرًا بديلًا للمعادن النادرة في ظل القيود الصينية على تصديرها.
وتُنتج الصين نحو 61% من المعادن النادرة المستخرجة عالميًا، وتُقدّم 92% من الإنتاج في مرحلة المعالجة، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية. ويأمل ترامب أن تكسر صفقة أستراليا هذا التفوق. كما وقّعت الولايات المتحدة هذا الشهر مذكرة تفاهم مع تايلاند للتعاون في استخراج واستيراد المعادن النادرة.
أما الصين فقد وقعت العام الماضي مذكرة تفاهم مع تركيا في مجال التعدين، وأبرمت الهند اتفاقيات مع موزمبيق وملاوي وكوت ديفوار للتعاون في استخراج المعادن النادرة وتقليل الاعتماد على الصين.
نحن غائبون
يجوب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم بحثًا عن صفقات لتأمين سلاسل الإمداد من المعادن النادرة، ويذهب إلى كل أرض تحتوي على عناصر نادرة بدافع المال والأعمال منذ عودته إلى الرئاسة، وسيستمر في هذا السعي.
ورغم اهتمام ترامب بالشراكة مع دول عربية متعددة، ورغم اتساع رقعة العالم العربي الجيولوجية وتنوع موارده التعدينية، فإننا ما زلنا غائبين عن خارطة استخراج المعادن النادرة أو استيرادها لأغراض الصناعات المدنية والعسكرية، ولا يبدو أننا سنشارك قريبًا في «موسم الهجرة إلى أرض المعادن النادرة».
