«المتحف المصري الكبير».. ماذا يعني؟!

منذ فجر التاريخ، حين كان الإنسان في سعيه الأول نحو الحضارة، كانت مصر قد سبقت الجميع لتضيء فجر الضمير الإنساني، كما قال المستشرق جيمس هنري بريستد. فقد خطّت بأحجارها ونقوشها أولى صفحات المجد البشري، وعلى ضفاف النيل الخالد وُلدت الحكاية التي علّمت الدنيا معنى الخلود. هناك كتب المصريون القدماء بأيديهم نشيد الإبداع والعظمة، فكانت مصر مهد الحضارات ومصدر الإلهام الإنساني لكل من جاء بعدها. واليوم، تواصل مصر كتابة سفر جديد في تاريخها الخالد بافتتاح المتحف المصري الكبير، ذلك الصرح الذي لا يجسّد عظمة الماضي فحسب، بل يقدّم رؤية متكاملة تربط بين التراث والحداثة، ليُخبر العالم من جديد أن مصر لا تزال، كما كانت دائما، مركزا للحضارة ومرجعا للهوية الإنسانية التي لا تنطفئ.
ميلاد جديد عند أهرامات الجيزة
في مشهد يُعبّر عن استمرار هذا المجد، يطل المتحف المصري الكبير في موقع فريد على بُعد كيلو مترين من هضبة الجيزة. بواجهته الزجاجية اللامعة ومساحته الكبيرة التي تبلغ نحو نصف مليون متر مربع، يبدو الصرح وكأنه يعيد تعريف فكرة “المكان” ذاته، فلا هو مجرد مبنى يحتضن آثارا، ولا هو متحف تقليدي بالمعنى المعتاد، بل تجربة معمارية وثقافية تُشعرك بأنك تنتقل من زمن إلى زمن آخر.
استغرق إنجازه أكثر من عقدين من الزمن، إذ وُلدت فكرة إنشائه في التسعينيات، ووُضع حجر الأساس عام 2002، ثم مرّ بسنوات من التحديات السياسية والاقتصادية، من ثورات وتغيّرات، وجائحة عالمية. لكن الحلم ظل قائما، إلى أن تحدد الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2025 ليكون لحظة الميلاد الرسمي للمتحف المصري الكبير، أكبر متحف في العالم مخصّص لحضارة واحدة.
وكان تمثال الملك رمسيس الثاني من أوائل القطع التي نُقلت إلى المتحف، ليستقر في القاعة الكبرى شامخا كملك يواجه الزمن ليحيي حضارة الماضي. تمثال مهيب يتجاوز ارتفاعه أحد عشر مترا ويزن عشرات الأطنان، ليلفت أنظار الزائرين بوصفه أحد أهم معالم العرض التمهيدي منذ انطلاق الجولات التجريبية نهاية عام 2022، وصولا إلى التشغيل التجريبي الرسمي لاثنتي عشرة قاعة رئيسة في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2024.
رحلة عبر الزمن
تمتدّ بعد القاعة الكبرى اثنتا عشرة قاعة رئيسة للعرض، تجسّد تطوّر الحضارة المصرية عبر أكثر من خمسة آلاف عام، من عصور ما قبل التاريخ وعصر ما قبل الأسرات، مرورا بالعصر الفرعوني وما تضمّنه من تماثيل ولوحات ونقوش هيروغليفية، ومن بين ما يميّز القاعات عرض استثنائي لأكثر من 100 ألف قطعة أثرية، تشمل تقريبا مجموعة كنوز الملك توت عنخ آمون، وهي تحفة فريدة تُعرض مجمّعة لأول مرة تحت سقف واحد منذ اكتشافها عام 1922. وتشمل القطع القناع الذهبي الشهير، والعربة الملكية، والعرش، والمجوهرات الخاصة بالملك الصغير، إلى جانب أدوات الحياة اليومية.
إلى جانب أعمال فنية وأوانٍ فخارية ومنحوتات تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، يمتدّ السرد البصري عبر العصر الفرعوني بما يضمه من تماثيل ولوحات ونقوش هيروغليفية تنبض بالحياة، وصولا إلى الفترات المتأخرة التي تجلّت فيها العناصر الفنية المصرية في تفاعلها الخلّاق مع التأثيرات اليونانية والرومانية.
لكن التجربة في المتحف لا تقتصر على المشاهدة فقط، بل تمتدّ لتصبح تجربة تعليمية وتفاعلية متكاملة، إذ يقدّم المتحف عبر مركز التعليم برامج تعليمية متنوعة وورش عمل تفاعلية، إضافة إلى أنشطة مصمّمة خصيصا للأطفال من عمر 6 إلى 12 عاما، إلى جانب جولات إرشادية وأنشطة عملية تربط بين القطع الأثرية والمعرفة العلمية، ليتمكّن كل زائر من التفاعل مع التاريخ وفهم جذور الحضارة المصرية بطريقة حية وملموسة، بعيدا عن التجربة التقليدية للمشاهدة فقط.
حضور عالمي لحظة ميلاد الصرح
ولا تتوقف هذه التجربة الحيّة للتاريخ عند حدود القاعات والقطع الأثرية، بل تمتدّ إلى أجواء حفل الافتتاح نفسه، الذي سيجمع رؤساء وملوكا وشخصيات دولية مرموقة، إلى جانب قيادات ثقافية من مختلف أنحاء العالم.
وقد تجلّى الاهتمام الدولي بهذا الحدث حين نشر عالم المصريات الياباني البارز ساكوجي يوشيمورا لمتابعيه على موقع “إكس” لحظة تلقيه بطاقة الدعوة لحضور الافتتاح، في إشارة رمزية إلى المكانة العالمية لهذا الصرح واحتفاء المجتمع الدولي بالحضارة المصرية العريقة.
وعلى الرغم من أن المعرفة التاريخية والحضارية تُشكّل جوهر هذا الصرح العظيم، فإن موقعه الفريد بالقرب من الأهرامات يجعل الزائر يدرك أن الحاضر هو امتداد حيّ للماضي، لا بديلا عنه. ففي كل حجر من أحجاره، وكل قاعة من قاعاته، تنبض روح مصر الخالدة التي لم تعرف يوما الفناء، وتُعلن أن مصر باقية ما بقي التاريخ، وأن المتحف المصري الكبير ليس مجرد متحف، بل رسالة مصر إلى العالم: رسالة تقدير للثقافة، وإشادة بالإنجاز البشري، ودعوة لكل زائر ليشارك في حكاية حضارة لم تتوقف عن العطاء منذ فجر التاريخ، ولا تزال تُلهم الإنسانية حتى اليوم.

