كيف تغيّر الأمم معادلات العدد وتنتصر بالنوع؟

في العراق بقي القرار طويلا في يد من يمثلون العدد لا النوع (رويترز)

من السهل أن يصفّ الإنسان شعبه في خانة الأرقام: ثلاثون مليونًا هنا وخمسون مليونًا هناك، ثم يخرج باستنتاج مطمئن مفاده أن الكثرة قوة. لكن التاريخ لا يتذكر الشعوب بكثرتها، بل يتذكرها بما أنتجته من وعي، وبمن قاد مشروعها، وبما صنعته من فارق. الأمم التي رهنت مستقبلها للعدد وحده بقيت عالقة في خانة الاستهلاك، أما تلك التي اختارت النوع الواعي قياديًا وفكريًا فقد قفزت فوق القيود وبنت موقعًا لها في الصف الأول من الحضارة الإنسانية. الدول الكبرى اليوم لا تُقاس بمساحتها ولا بتعداد سكانها؛ فالهند مثال واضح على أن الكثرة وحدها لا تصنع تقدمًا إذا غابت الإدارة النوعية. والصعود الحقيقي في عصر التكنولوجيا والاقتصاد المعرفي تقوده دول صغيرة السكان… كبيرة العقول: سنغافورة، الدنمارك، كوريا الجنوبية، وقطر. هذه البلدان فهمت مبكرًا أن معيار القوة اليوم هو ما ينتجه الإنسان لا عدد الناس الذين يُحصَون في السجلات.

قانون التاريخ: الأقلية الواعية تصنع التحوّلات الكبرى


التجربة البشرية تكشف قاعدة دقيقة: ليس كل من يشهد التاريخ يصنعه. فالنهضات الكبرى ارتبطت دائمًا بنخبة قليلة تحمل رؤية، تقتحم المجهول، وتنتزع زمام المبادرة. ثُلّة من الصحابة غيّرت وجه العالم، ونخبة المؤسسين في الولايات المتحدة أعادت تعريف الدولة، وعلماء النهضة الأوروبية رسموا مسار المستقبل، وقادة ماليزيون وسنغافوريون أعادوا صناعة بلدان كانت متخلّفة. لم تنتصر هذه الأمم بحجمها، بل بوعي الفئة التي قادتها. الأقليات الواعية لا تحكم بالقوة، بل تحكم بمعادلة المعرفة والتخطيط والمبادرة. فحين تمتلك مجموعة صغيرة قدرة صياغة مشروع وطني، يصبح تأثيرها أوسع من ملايين الأشخاص الذين يبحثون عن اتجاه. لذلك تركّز الدول الذكية على إنتاج نخبة صانعة للتاريخ، لا جماهير مستهلكة له، لأن مشروعًا واحدًا ناجحًا قد يختصر أجيالًا من التخبّط.

من يحكم التاريخ؟ النخب الواعية أم الأصوات المرتفعة


الجماهير تعبّر عن الحالة الاجتماعية، والقيادة تعيد تشكيلها. عندما يكون القائد صاحب رؤية يتحوّل الناس من عدد إلى قوة، وعندما يفتقر القائد للوعي تتحول الجماهير إلى عبء يتراجع دون أن تفهم لماذا. لذلك اختيار القيادة هو أخطر قرار تتخذه الأمم؛ إذ به تتحدد وجهتها: إمّا إلى قمة الإنتاج أو إلى قاع التكرار والضياع. القائد الحقيقي لا ينتظر الإجماع الشعبي لكي يتحرك، بل يصنع الإجماع من خلال الإنجاز. يصغي للعلماء والمبدعين وأصحاب الاختصاص أكثر مما يصغي لطبول الحشود. والفرق بين دولة تنهض ودولة تتدهور هو قرار واحد تتخذه القيادة: الرهان على العقول أم الرهان على الضوضاء؟ هنا يظهر الفرق بين من يقود التاريخ ومن يُقاد به.

التعليم النوعي: معركة بناء الإنسان المنتج


المدرسة ليست جدرانًا، بل مصنعًا للوعي، والجامعة ليست شهادة، بل قدرة على تحويل المعرفة إلى قيمة. الأمم التي تنتصر بالنوع لا تكتفي بتعليم واسع الانتشار، بل تجعل التعليم أداة لترتيب الأولويات: العلوم، التكنولوجيا، ريادة الأعمال، قيم الإنتاج والانضباط. المعيار الحقيقي ليس كم تخرّج؟ بل: كم اختراعًا أنتج خريجوه؟ كم شركة؟ كم حلًا؟ هذا هو الفارق بين دول تستورد المستقبل ودول تصنعه بيدها. التعليم النوعي يُنتج مواطنًا يمتلك مهارات المستقبل: التفكير النقدي، الابتكار، الذكاء الرقمي، وحل المشكلات. أما التعليم التلقيني فينتج موظفين ينتظرون الوظيفة بدل مبدعين يصنعونها. الفارق بينهما هو الفارق بين أمة تظل واقفة عند محطة التاريخ وأمة تصنع محطة جديدة وتنطلق منها إلى الأمام.

الاقتصاد المعرفي: الثروة التي لا تُقاس بالنفط والحديد


العالم اليوم لا يدفع ثمن ما تمتلك، بل ثمن ما تبتكر. شركات التكنولوجيا العملاقة تساوي قيمتها ثروات دول كاملة، وموظف واحد موهوب قد ينقل شركة إلى السوق العالمية ويخلق آلاف فرص العمل. رأس المال البشري أصبح أهم من رأس المال المادي. العدد لا ينجح في سوق المنافسة إلا أن كان مُدرّبًا، مبدعًا، منتجًا. الدول التي تعتمد على الموارد وحدها تظل رهينة أسعار السوق وتقلبات السياسة، والدول التي تعتمد على العقول تظل في صعود دائم. قيمة فكرة واحدة في مختبر صغير قد تفوق عائدات حقل نفطي كامل. لذا تتسابق القوى الكبرى اليوم على استقطاب العقول، لا على ضمّ الأراضي والسيطرة على السكان. المستقبل تملكه الدول التي تملك الابتكار.

ديمقراطية الكمّ أم ديمقراطية الكفاءة؟ معركة المستقبل الحقيقيّ


الديمقراطية الحقيقية لا تكتفي بخيارات الأغلبية، بل تحمي وعي الأقلية التي تفكر وتخطط للمستقبل. حين تُقاس السياسة بصوت الحشود فقط، تصعد الرداءة، وتُقصى الكفاءة، وتستهلك الدولة ذاتها في دائرة مغلقة من الفشل. الشرعية لا تُقاس بالتصويت وحده، بل بالمنجز الذي ينعكس على حياة الناس، وبالحكمة التي تقي الأمة من الانحدار. التجارب في كثير من البلدان أثبتت أن الأغلبية قد تصوّت عاطفيًا ضد مصلحتها الحقيقية، وقد ترفع أصحاب الخطاب الشعبوي الذين يجيدون الهتاف لا البناء. هنا تأتي أهمية ديمقراطية الكفاءة، حيث تُمنح الفرصة لمن يمتلك الرؤية والمعرفة، لأن الصوت بلا عقل يتحول إلى سلاح بيد الفوضى لا إلى قوة تخدم الدولة.

قوة العقول أم ضوضاء الجماهير؟


العراق يملك كل عناصر الدولة القوية: ثروات هائلة، موقعا استراتيجيا، تنوعا بشريا، تاريخا حضاريا. غير أن القرار بقي طويلًا في يد من يمثلون العدد لا النوع. فانتصر الصوت العالي على المشروع الأقدر، وانتصرت الاصطفافات على المواهب الكبيرة. والنتيجة واضحة: حين تقود الكثرة بلا رؤية يتراجع بلد يملك كل مفاتيح النهوض. المطلوب اليوم ليس زيادة الأرقام الانتخابية، بل زيادة عدد العقول القادرة على التفكير والتخطيط. العراق لن ينهض بتوسعة قاعدة الصراخ، بل بتوسعة قاعدة الإنتاج، ولن يتقدم من خلال أحزاب تبيع وعودًا، بل من خلال قيادة تعرف كيف تترجم الإمكانيات إلى إنجازات. فبلد يمتلك هذا الإرث وهذه الموارد لا يليق به أن يُدار بمنطق الحسابات الضيقة.

خلاصة القول
الأمم المتقدمة لا تُبنى بكبر حجمها، بل بكبر قيمة من يقودها ويفكر لها ويبتكر لأجلها. العدد الذي لا يصنع معرفة ولا يضيف إنتاجًا ولا يخلق حلولًا هو مجرّد أصوات تمشي لا قوى تنهض. الفرق بين الدول ليس في تعداد شعوبها، بل في عدد العقول القادرة على تغيير مصيرها. من أراد المستقبل فعليه أن يربح معركة النوع فوق العدد، لأن الوعي ينتصر دائمًا ولو كان أقلية.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان