«أمك».. مفردة الأم من المجاز إلى التردي السياسي

المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت (رويترز)

أمك. في أسبوع واحد وردت هذه المفردة ثلاث مرات في أروقة سياسية، مرتان في أمريكا، والثالثة في إسرائيل، في سياق حواري سياسي أو إعلامي سياسي. ففي المرة الأولى وردت ردًّا من المتحدثة باسم البيت الأبيض، عندما سألها مراسل: من اختار بودابست لقمة ترامب وبوتين؟ فأجابته: «أمك». والثانية: عندما سُئل متحدث البنتاغون حول رابطة عنق وزير الحرب، فرد: «أمك». والثالثة: عندما اتهم ابن غفير عضوة بالكنيست بأنها متحدثة باسم حماس، فردت عليه ياسمين ساكس فريدمان عضو الكنيست: «متحدثة حماس هي أمك».

الأم في الخطاب السياسي المعاصر

وهو ما دفع كثيرًا من الناس للحديث عنها أول مرة عابرة، حين صدرت على لسان متحدثة البيت الأبيض، إذ خرجت الكلمات من جهات لا يُتوقع منها ذلك، حيث يكون اختيار الكلمات المعبرة عن الموقف بأفضل العبارات، ولو على حساب الحقائق، كما في كثير من حديث الجهات الثلاث عمّا يجري في غزة، وعدم إدانة الكيان الصهيوني.
لكن سياق الكلمة فيما ذكرنا ليس سياقًا يتوقع المتابع أو المشاهد سماعها فيه، عدا موقف نائبة الكنيست، فقد كانت في سياق السخرية من ابن غفير، فربما كان ردها مناسبًا لتهمة يتهمها بها من باب الابتزاز السياسي، فأرادت أن تحول الموقف إلى سخرية وتهكم، وهو أمر وارد في السياسة، وربما يُحبّذ عندما يكون محدثك غير جاد أو يرمي بالتهم الجزافية والبلهاء عليك.

هذا الورود لهذه الكلمة في معرض الإجابة وجد تفاعلًا من العرب على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأت مطالب تتحدث عن دراسة الكلمة من حيث الاستعمال السياسي لها، فكان الاقتراح بكتابة بحث عن «الأم في الخطاب السياسي المعاصر».
ورغم أن المطلب أو الاقتراح كان من باب السخرية السياسية وليس الجدية البحثية، فإن الأمر إذا نظرنا إليه من الناحية الأكاديمية فهو مطروق من قبل، باستخدام كلمة «الأم» أو ما يشير إليها، إذ إن هذا التعبير استخدم على مدى العصور في السياق السياسي والصراع.

مفردة الأم في التراث العربي

فقد كانت العرب تستخدمه كثيرًا، وهو ما نراه مبثوثًا في التراث العربي والإسلامي. ولو رجعنا إلى كتب السيرة والتاريخ الإسلامي والأدب العربي، لوجدنا عبارات من هذا القبيل تُستخدم. ففي السيرة النبوية نجد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكان في سياق المنافسة والاستفزاز من قادة المشركين بالدعوة للمواجهة، فلقي سباع بن عبد العزى الغبشاني في ساحة المعركة في غزوة أحد، فقال له حمزة: «هلم إليّ يا ابن مقطعة البظور»، وكانت أمه خاتنة تقوم بختان الإناث.
وفي الصراع الذي دار بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وما نتج عن هذه الفتنة تاريخيًا، سنجد أن كتب التاريخ لم تخلُ من عبارة تُذكر في الكتب التي تبغض معاوية، وهي وصفه بأنه «ابن آكلة الأكباد»، إشارة إلى تمثيل أمه هند بنت عتبة بجسد حمزة رضي الله عنه قبل إسلامها.

ومن يقرأ في أشعار العرب وتاريخهم وصراعاتهم، سيجد كثيرًا من الحديث عن الأمهات في سياق المعايرة بالجبن أو الخوف، أو اتهام الخصم بعدم القدرة على تنفيذ تهديده، فنجد الردود فيها ذكر الأم وبعض أعضائها، ولكنه كان في سياق ما نسميه في اللغة العربية «المجاز»، فعادات الناس تجعل من اسم الأم أو المرأة بوجه عام مجالًا للخجل أو النيل من الشخص.
ولا يُعرف في تاريخ البشرية أحد ذكر المرأة في المجال العام بصيغة الفخر والمدح سوى محمد صلى الله عليه وسلم، فقد وقف على جبل الصفا ينادي بأعلى صوته: «يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب»، في وقت كانت العرب تخجل من ذكر النساء إلا في باب الهجاء.
وفي يوم فتح مكة، وقد رأى شخصًا ترتعد فرائصه من لقائه، قال له صلى الله عليه وسلم: «هوِّن عليك يا أخي، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد ببطحاء مكة».

الأم والمجاز السياسي

بالعودة لتصريحات السياسيين بكلمة «أمك»، فإنه سياق يدخل فيما يسمى «المجاز السياسي»، وهو ما أبدع في كتابته والتأصيل له الدكتور عمار علي حسن، في كتاب ماتع ومهم بهذا العنوان: المجاز السياسي.
وقد أصل فيه لهذا اللون الذي تحوّل من عالم اللغة لعوالم أخرى، منها عالم السياسة، ومن يعود إلى مبحث ما قبل خاتمة الكتاب بعنوان «مسرد بأهم المجازات السياسية المتداولة»، فسيجد كمًّا هائلًا من هذا اللون، مثل: إدارة التوحش، الاستبداد الشرقي، الاغتيال المعنوي، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، انتصار الدم على السيف، الباب المفتوح، البطة العرجاء، انتفاضة الحجارة، جمهوريات الموز، تشريع على بياض، حكومة الظل، الحمائم والصقور، دولة الظل، الدولة العميقة.

وأعتقد أن عمار علي حسن سيحتاج إلى ضم المفردة الجديدة «أمك» لهذه العبارات، سواء من حيث دخولها باب المجاز أو الاستعارة أو السخرية السياسية.
وستتحول من السياق السبابي الشعبوي إلى السباب السياسي الشعبوي الغربي، فإذا كنا نجد الكلمة في الثقافة العامية والشعبية في بلادنا، وفي مصر تحديدًا، تُقال في سياق الملاسنات أو الرد الساخر المعترض على ما يطرحه الطرف الآخر، وورودها في بعض الأفلام المصرية الحديثة، فسيكون من المفيد لدى دارسي السياسة والخطاب السياسي، البحث في ما إذا كانت هذه المفردة منتقلة من الثقافة الشعبية المصرية، أم لها جذور وأصل في الثقافة الشعبية الغربية، أم أنها متأثرة بأداء ترامب الرئيس الأمريكي الذي أصبح خطابه متجاوزًا لكل الأعراف السياسية، ولم تعد تعابيره تفاجِئ الناس سواء اللفظية أو الجسدية!

ثراء التراث المصري بالخطاب السياسي

ومن أهم اللهجات التي نجدها ثرية ثراءً غير مقارن في هذا الباب، باب المجاز السياسي والاستعارة والتشبيه السياسي والسخرية السياسية، اللهجة المصرية.
وهو ما لا يخلو منه عصر من العصور، ولا مرحلة من المراحل، سواء كانت على ألسنة حكام مصر، أم على ألسنة معارضي الحاكم، أم على ألسنة العامة من الشعب.
فبالعودة لكتاب الأمثال العامية لأحمد تيمور باشا، سنجد أمثلة شعبية جرى استعمالها في السياق السياسي، وفي كتابه الآخر الكنايات العامة أيضًا عبارات انتقلت من خطاب العامة إلى خطاب الساسة.
وهي مساحة جديرة بالبحث والدراسة، بغضّ النظر عن السياق الذي جرّنا إليها، وهو خطاب غربي سياسي، لكننا في ظل عالم لم يعد فيه فروق في وصول الثقافة والخطاب السياسي ومدى التأثير والتأثر، سواء على مستوى الحكم والسياسة أم على مستوى الخطاب.
فكم من عبارات قيلت في الشرق وانتقلت إلى الغرب، والعكس كذلك، في ظل هذه الثورة الهائلة في الاتصالات، ومدى تأثير هذه الثورة على مستويات عدة: دينيًّا، واجتماعيًّا، وثقافيًّا، وسياسيًّا.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان