السد العالي… معجزة عبد الناصر التي أنقذت مصر من الفيضانات!

الفيضانات الكاسحة التي غمرت السودان مؤخرًا أعادت إلى الأذهان قصة بناء السد العالي، أحد أعظم مشروعات القرن العشرين على الإطلاق. فكرة السد ظلّت تراود المصريين على مدى ألف عام، حتى تحققت على يد الزعيم جمال عبد الناصر، الذي خاض صراعًا ماليًا وسياسيًا مع عدة دول من أجل تنفيذ المشروع، من بينها ألمانيا التي كانت مصر تثق في خبرة مهندسيها وقدرات شركاتها الإنشائية. ورغم المفاوضات الطويلة مع الجانب الألماني، فإن المحاولة فشلت في النهاية بسبب تردد الحكومة الألمانية آنذاك.
قصة بناء السد العالي تعد من أكثر القصص الملهمة في التاريخ المصري الحديث، إذ تجسّد العزيمة والإصرار الوطني في مواجهة الصعاب. ومهما اختلفت الآراء حول عبد الناصر، فإن أحدًا لا ينكر أنه كان زعيمًا وطنيًا مخلصًا حقق مشروعًا قوميًا وأمنيًا عالميًا بشهادة جميع الخبراء.
البدايات الألمانية ومفاوضات التمويل
قال البروفيسور أوتو كيرشمار، أستاذ الهندسة الهيدروليكية في الجامعة التقنية بمدينة دارمشتات الألمانية، في حديثه للصحافة الألمانية بمناسبة اليوبيل الذهبي للسد العالي قبل أعوام، إن السد العالي يُعد أحد أكبر ثلاثة سدود في العالم. وأضاف أن هذا السد الذي يبلغ طوله نحو أربعة كيلومترات وارتفاعه قرابة مئة متر، هو إنجاز هندسي عبقري أنقذ مصر مرات عدة من الفيضانات المدمرة، وحقق حلم عبد الناصر في توسيع الرقعة الزراعية في مصر بنسبة 25%، وإتاحة زراعة المحاصيل مرتين أو ثلاث مرات في السنة.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4قوات عسكرية تركية في غزة رغم أنف إسرائيل
- list 2 of 4فرانكشتين: بين غرور الخلق ومرارة الندم
- list 3 of 4مغتربون خارج المعادلة: كيف أُقصي العراقيون في الخارج من الانتخابات؟
- list 4 of 4هذا الموسم .. بحر الدراما التركية يفيض
كان المصريون يثقون في الشركات الألمانية، وبدأوا مفاوضات جدّية معها قبل طرح المشروع دوليًا. فقد وضعت شركتا «هوختيف» و«دورتموندر أونيون برُكنباو» الألمانيتان تصورًا للمشروع، تضمّن تقنية ثورية لبناء السد باستخدام الصخور المكدّسة بدلًا من الخرسانة، مع عرض في قمته يبلغ خمسين مترًا، يتم رصّه بإحكام باستخدام آلات اهتزازية حديثة، وبطريقة تجعله مقاومًا للزلازل.
لكن المفاوضات تعثرت حين علم المصريون أن حكومة بون وافقت على زيادة استيراد القطن المصري بشرط غير معلن يقضي بإعادة تصدير الكميات الإضافية إلى إسرائيل. وازداد التعثر بعد زيارة وكيل وزارة الاقتصاد الألمانية الدكتور فيستريك إلى القاهرة في أواخر شتاء عام 1953، حيث جرت مفاوضات حول تمويل المشروع، لكن الحكومة الألمانية لم تلتزم سوى بتقديم 300 مليون مارك فقط، في حين كانت تكلفة السد تُقدّر بنحو مليار دولار. وقد عرضت مصر تسديد المبلغ من العائد الزراعي المتوقع من المشروع، إذ كان من المنتظر أن يرتفع إنتاج الأرز من 400 ألف طن إلى 750 ألف طن سنويًا، بما يتيح تصدير فائض يبلغ 350 ألف طن كل عام.
ويقول البروفيسور كيرشمار بهذا الخصوص إن مصر بدأت بعد ذلك مفاوضات مع الولايات المتحدة، غير أن واشنطن لم تكن راغبة في المساهمة في بناء السد بسبب علاقات عبد الناصر المتنامية آنذاك مع الاتحاد السوفييتي والصين. وفي يوليو 1956، أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس سحب تمويل مشروع السد العالي، مما أثار غضب عبد الناصر ودفعه إلى إسناد تنفيذ المشروع إلى الجانب السوفييتي، وهو ما منح موسكو موطئ قدم مهمًا في الشرق الأوسط.
ولادة المشروع العملاق
في التاسع من يناير عام 1960، أعطى جمال عبد الناصر إشارة البدء في بناء السد العالي، وقد بلغت التكلفة الإجمالية للمشروع مليار دولار، شطب الاتحاد السوفييتي ثلثها. وشارك في بنائه نحو 400 خبير روسي إلى جانب 34 ألف عامل مصري، تراوحت أعمارهم بين 13 و75 عامًا، وكان أجر العامل وقتها 25 قرشًا في اليوم، أي ما يعادل نحو يورو ونصف، في زمن كان فيه الجنيه المصري قويًا أمام العملات الأجنبية.
ورحل عبد الناصر قبل افتتاح السد رسميًا في 15 يناير 1971، لكنه بقي شاهدًا خالدًا على واحد من أعظم إنجازاته. ورغم الانتقادات التي وُجّهت إليه، مثل تراجع خصوبة التربة الزراعية وتهجير نحو مئة ألف نوبي من قراهم الأصلية التي غمرتها مياه بحيرة ناصر، التي يبلغ طولها 500 كيلومتر وعرضها 10 كيلومترات وسعتها التخزينية 162 مليار متر مكعب، فإن السد العالي سيظل في نظر المصريين «هرمًا صناعيًا» خالدًا لا يقل أهمية عن أهرامات الجيزة.
من سد النهضة إلى التعاون الألماني الجديد
ومع الجدل الذي أثاره سد النهضة الإثيوبي اليوم، تعود إلى الأذهان تصريحات الدكتور فيستريك الذي أقر بأن تردد الحكومة الألمانية في خمسينيات القرن الماضي أضاع على ألمانيا فرصة تاريخية في أسوان. وأوضح أن المصريين استطاعوا آنذاك المناورة بين القوى الكبرى، بينما فشلت الشركات الألمانية في توحيد جهودها والعثور على ممولين أجانب، وهو ما يوضح إلى أي مدى تغيّرت الموازين، إذ أصبحت إثيوبيا اليوم هي من يناور بالمفاوضين المصريين.
ومع ذلك، تبقى الحقيقة الثابتة أن السد العالي، وعلى مدار أكثر من 55 عامًا، حمى مصر من خطر الفيضان والجفاف. ورغم ما أُثير مؤخرًا عن غرق بعض الأراضي في دلتا النيل بسبب ارتفاع منسوب المياه، فقد أكد الخبراء أن وزارة الري كانت قد صرفت كميات كبيرة من مياه السد لتجنّب أي أضرار، ما أدى إلى ارتفاع المنسوب بشكل مفاجئ.
والمفارقة اللافتة أن ألمانيا التي رفضت تمويل المشروع يومًا ما، أصبحت اليوم شريكًا أساسيًا في صيانته، إذ تم الاتفاق مؤخرًا على برنامج لإعادة تأهيل مولدات الكهرباء بالسد العالي بتمويل ألماني يبلغ 41 مليون يورو، ومن المقرّر الانتهاء من أعمال التحديث بحلول عام 2028، في استمرار واضح لمسيرة التعاون المصري الألماني في مجال الطاقة والبنية التحتية.
