في الجوار أحزان

الكثير من السكان المدنيين اضطروا للنزوح من الفاشر بعد دخول الدعم السريع للمدينة
الكثير من السكان المدنيين اضطروا للنزوح من الفاشر بعد دخول الدعم السريع للمدينة (الفرنسية)

هناك في الجنوب على امتداد مصر، وبينما يمضي نيلها العظيم إلى جنوب الوادي، مذبحة إنسانية يشارك فيها أشقاء -بدعم خارجي- ضد إخوانهم من نفس البلد (السودان). هذا البلد كان جزءًا من مصر وامتدادًا لها، وما يحدث فيه تمتد آثاره إلى شمال الوادي، فالكيان واحد منذ أن تغيّرت ملامح القبائل السودانية لتصبح دولة.
وعبر تاريخ طويل من الدولة الإسلامية منذ المماليك حتى الخلافة العثمانية كانت مصر والسودان دولة واحدة، ولذا فإن آلام السودان هي آلام في قلب مصر، وضحايا السودان في الفاشر بإقليم دارفور أو أي إقليم آخر هم ضحايانا شئنا ذلك أم أبينا.
وفي الفاشر آلاف الضحايا، ومئات الآلاف من النازحين، وفي السودان 11 مليون نازح، و3 ملايين لاجئ هربوا من معركة عبثية منذ عدة سنوات. وكل هذه الآلام ترتد وجعًا في قلب كل مصري يعرف معنى السودان وعروبته وعلاقته بمصر، فاحترس من صوت التلفاز، لأن بالجوار أحزانًا.

ما زالت غزة تئن من آلام عامين وأكثر من الدماء والدمار والاحتراق على يد نازيي العصر الصهاينة، وما زالت خروقات الجيش الصهيوني تُخلّف يوميًا مئات من الشهداء والجرحى، وعشرات من المباني المدمرة. لم يتوقف نزيف الدم الفلسطيني منذ توقيع اتفاق الهدنة في شرم الشيخ، وما زلنا نتجرع آلام 70 ألف شهيد، و200 ألف جريح، وآلاف تحت الأنقاض منذ الثامن من أكتوبر 2023 حتى الآن. فالأحزان لن تتوقف بتوقف الحرب، بل تزداد وجعًا وصرخات من القلب لمن عاش ويعيش فاقدًا أحبابه، فتحسس صوت أفراحك، ففي الجوار أحزان لا تتوقف.

من الذاكرة البعيدة

عشت سنوات طفولتي في قرية مصرية تعرف معنى أحزان الجار قريبًا كان أو بعيدًا، من العائلة أو من عائلة مجاورة لنا. لم يكن بالقرية مع بدايات السبعينيات من القرن الماضي سوى عدد قليل من أجهزة الراديو توجد عند كبار القوم، وكانت القرية رغم تعدد عائلاتها ووجود صلات نسب أو عدم وجودها وحدة واحدة لا تنفصل في أفراحها.
أما في الأحزان فكانت القرية تلتئم لتصبح جسدًا واحدًا، فكان من الصعب أن تجد زيًا ملوّنًا ترتديه إحدى نساء القرية، ومن المستحيل أن يرتفع صوت المذياع في بيت من بيوتها مهما بَعُد موقعه عن موقع أهل المصاب فقيدًا أو حتى مريضًا، خاصة إذا كان المرض عصيًا على التعافي. وفي أغلب الأحيان عندما يرحل رجل أو امرأة كانت أجهزة الراديو تصمت أربعين يومًا، لأن في الجوار أحزانًا.

في منتصف السبعينيات بدأت أغلب القرى المصرية يدخل إليها كهرباء السد العالي وتضاء بالكهرباء بعدما كانت تضاء منازل الفقراء بمشعل الجاز، ومنازل الأغنياء بالكلوب ذي «الرتينة» وهو اختراع كنا نتعجب له.
ومع دخول الكهرباء دخل أيضًا التلفاز إلى أغلب منازل القرية بعدما كان عدده محدودًا لدى كبار القرية ويعمل ببطارية السيارات، وبدأت العادات والتقاليد تتغير مع دخول هذا الجهاز الساحر لنا، وبدأت معايير الآباء والأجداد في الأحزان والأفراح تختلف مع تمرد أجيال جديدة تأثرت بالتلفزيون على هذه التقاليد.
ولكن ظلت قرانا تحتفظ بعادة الحفاظ على مشاعر أهل الحزن الذين يصيبهم مصاب جلل، حادث كبير أو وفاة، وكانت الأمهات يحرصن على تغطية التلفاز بقطعة قماش لمدة طويلة، أربعين يومًا، تقلصت بفعل تأثير التغيرات إلى أسبوعين ثم أسبوع واحد.
ففي العادة كانت الأمهات والآباء حريصين على أن في الجوار أحزانًا.

ملامح كبيرة على مدار سنوات مرت بدأت تتغير، فأصبح تكاسل الأبناء والأحفاد عن المشاركات الوجدانية يتكرر، فقد أصاب القوم قحط في الوجدان، وللأسف كان بفعل فاعل، هو هذا الجهاز الذي أصبح في كل منزل.
واختفت المشاركة مع عائلات النسب والمصاهرة أو عائلات الجوار، وصارت رحلة مجاملة في أفراح، أو واجب عزاء في الأحزان، لا يتعدى المشوار أو اللحظة. حتى صرنا الآن في القرن الحادي والعشرين لا نعرف أين منزل الفرح، وأين منازل الأحزان، ولم يعد أحد يقول لنا «احترس، ففي الجوار أحزان».

من حقك تفرح

نعم، الجميع من حقهم أن يعبروا عن فرحهم، ولكن هل تلاشت مشاعرنا حتى فقدنا إحساسنا بوجعنا الشخصي هروبًا من الواقع؟ ونصرخ بأعلى الصوت فرحًا، مغنين أو مصفقين، دون مراعاة أحزان الجار أو حتى أحزاننا الشخصية؟
هل صار صراخ الفرح هروبًا من الآلام التي تسكن في وجداننا؟ هل التعبير الصارخ عن الفرح يعكس ألمًا آخر لا نستطيع التعبير عنه؟

أجل، من حقك أن تفرح، لكن لتكن تلك الأفراح حقيقية، لا مجرد أوراق مزيفة مثل الدموع المزيفة التي نكتبها على الصفحات، ولا نذرفها في الحقيقة.
طبقات من الإخفاء تتراكم في قلوبنا، فلم نعد نرى أين الفرح فيها، وأين الألم والحزن.
تحسست قلبي فلم أجد مكانًا لفرح من كثرة طبقات الحزن، وأيقنت أن هناك تلالًا من الغم أصابت قلبي عبر سنوات طويلة.
في الأعوام الماضية تراكم ما لا تستطيع أفراح عابرة أن تمحوه من تلال الحزن على الشهداء والجرحى والمنازل المهدمة. لا نستطيع أن نمحو غياب الأحباب وغربة الأيام بنداءات فرح مزيفة، ففي جواري أحزان، وفي قلبي أحزان، فتحسسوا أصواتكم الصارخة بفرح، سواء كانت حقيقية أو مزيفة، تحسسوا، ففي الجوار أحزان لا تذهب.

من حقك أن تفرح وتصرخ في وجوهنا، وتتراقص في عيوننا بالعصا أو بدونها، لكن لتكن أفراحك مراعية لمن ينتظر عائدًا من بعيد، لمن ينتظر خروجًا من جحيم الغياب.
افرح، ولكن لا تُخفِ بفرحك آلامك ووجعك.
افرح، ولكن لا تتهرب من مسؤولية أن هناك في السودان ملايين من الأحزان الثقيلة وتلالًا من الدموع التي لا تنقضي.
افرح، ولكن لا تتصور أن جبال الحزن والصبر في غزة قد انتهت، ولا تنسَ أنه ما زالت هناك تلال أخرى من هذا الحزن والألم تحت الأنقاض في كل ركن من أركان شمالك الشرقي وجنوبك الغربي.
ففي الجوار أحزان ثقيلة على القلب، ولا تنسَ أن تبحث في قلبك عن ركن لم تختفِ منه مشاعر الإنسانية.
احترس، فإن الضحك يميت القلب.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان