أنا مسلم.. ممداني يصنع التاريخ

زهران ممداني الفائز بمنصب عمدة نيويورك (منصات التواصل)

أثار فوز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك رعب المؤسسة الحاكمة، ليس فقط لكونه ينتمي إلى الأقليات، فهو مسلم ومهاجر واشتراكي، ولكن لما يحلم به من جعل المدينة الأهم عالميًّا متاحة للجميع، بغضّ النظر عن طبقتهم ولونهم ودينهم، مدينة تنتصر لغزة وتقاطع سلع المستوطنات وتفرض الضرائب على الأغنياء.
فوز ممداني الشاب (34 عامًا)، ذي الأصول الأوغندية والهندية، يبعث برسالة أمل لشعوب العالم بأن العنصرية والطائفية والفاشية ليست قدرًا، وأن بديلًا إنسانيًّا ممكن، بل وقد يفتح الباب أمام تغيير لاحق في توجهات وسياسة واشنطن.
ومدينة نيويورك ليست مجرد رمز عالمي يحتضن مراكز صنع القرار المالي والسياسي العالمي، سواء في وول ستريت أو في غيرها، بل هي محرك اقتصادي جبار لأمريكا، باقتصاد يتجاوز 2.3 تريليون دولار، وهي مركز للمال والإعلام والتكنولوجيا والبحث الطبي.
جريدة «نيويورك تايمز» اعتبرت الانتخابات بمثابة اختبار مبكر لحكم ترامب، وستحدد خطاب الحزبين في العام الذي يفصلنا عن الانتخابات النصفية عام 2026.
ترامب، الذي يواجه معارضة شعبية متنامية، لم يخفِ انزعاجه، بل هدد بوقف التمويل عن المدينة، لكنه تراجع قائلًا: «سأتواصل معه، لكني لا أصدق أن أمرًا كهذا سيحدث.. انتخاب شيوعي عمدة للمدينة خطوة إلى الوراء.. لم ينجح الأمر من قبل، ولن ينجح هذه المرة أيضًا.. وليس من المستبعد أن يرشح نفسه لانتخابات الرئاسة بعد أربع سنوات، سيكون لديكم رئيس شيوعي، هذا مثير للاهتمام».
لكن التصويت لممداني لم يكن معركة الداخل الأمريكي فقط، بل امتد إلى إسرائيل

وقبل يومين من الانتخابات حرّض وزير الشتات الإسرائيلي عميخاي شيكلي على ممداني قائلًا إن انتخابه «سيدمر مدينة نيويورك»، مضيفًا: «من المؤكد أن نجاحه سيولد شعورًا سلبيًّا اتجاه إسرائيل واتجاه اليهود».
وجذبت المعركة كذلك أنظار كل المهتمين بقضايا الهوية على مستوى العالم، حيث تنتشر ظاهرة الإسلاموفوبيا، التي عانى منها ممداني طوال حملته، لكنه ظل متمسكًا بهويته، فأصبح أول شخص مسلم وجنوب آسيوي يتبوأ منصب عمدة المدينة التي تتجاوز ميزانيتها 110 مليارات دولار.

كيف انتصر ممداني؟

يشكل انتصار ممداني بارقة أمل لعامة الناس، فرسالته الانتخابية مست القلوب، ولذا كان الإقبال تاريخيًّا على صناديق الاقتراع، وتلخصت في «أقف مع العمال ضد المليارديرات، ومع فلسطين ضد الصهيونية، ومع المساواة ضد العنصرية، ومع الكرامة ضد قمع الشرطة».
حملته نجحت في إعادة السياسة إلى الشارع، مركزة على المشاركة الشعبية، فحشدت عددًا هائلًا من الناس العاديين، نحو 90 ألف متطوع يعمل أغلبهم دون مقابل.
وفقًا لشبكة «إيه بي سي نيوز» الأمريكية، وجدت دراسة لمجموعة من شباب مدينة نيويورك، أُجريت خلال فترة التصويت المبكر، أن رسالة ممداني حول القدرة على تحمّل التكاليف لاقت صدى لدى المشاركين القلقين بشأن تكلفة المعيشة في أكبر مدينة أمريكية.
كما تلقى ممداني إشادة لاستراتيجيته على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أتاحت له الاستفادة من أصوات مواليد مطلع القرن الحالي «الجيل زد» في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.
وليس سرًّا أن ممداني اكتسب تعاطف قطاعات واسعة من الشباب التقدمي في الحزب الديمقراطي بعد أن سعت قيادات في الحزب إلى إفشاله لأنه «يساري أكثر من اللازم».

أنا مسلم

لم يخفِ ممداني هويته سعيًا وراء الأصوات، بل كشف عن المضايقات والهجمات العنصرية التي يتعرض لها منذ إعلان ترشحه، معلنًا أنه آن الأوان لكي تكون نيويورك مدينة للجميع بلا تمييز.
وقال ممداني، خلال لقاء في المركز الثقافي الإسلامي بمدينة برونكس، إن تجربته في الحملة كشفت حجم الكراهية التي لا تزال قائمة بحق المسلمين، مشيرًا إلى أن خصومه السياسيين استخدموا صورًا ورسومًا مسيئة مستلهمة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتشويه سمعته.
وقبل الانتخابات، وقف وسط حشد من المسلمين الذين يشكلون 10% من سكان نيويورك متحديًا: «لن أخفي هويتي، فأنا مسلم البارحة واليوم وغدًا».
وقبل أيام بثّ فيديو متحدثًا باللغة العربية، وهو يشرب الشاي بالنعناع، قائلًا: «أعرف بماذا تفكرون.. شكلي كأنني صهركم من الشام.. بس العربي تبعي بده شوية شغل.. وعشان هيك أنا حبيت اليوم أطلب دعمكم» في إشارة إلى زوجته ذات الأصول السورية.
هذه الرسالة وغيرها، التي انتشرت بلغات مختلفة، تشير إلى فهمه للتحولات الديمغرافية والدينية التي تشهدها نيويورك، وحولتها إلى مدينة أكثر تنوعًا ومتعددة الأوجه دينيًّا ولغويًّا، ولا يزيد عدد السكان البيض بها على 34%.

مع غزة

هاجم ممداني بضراوة الإدارة الأمريكية، وهدد باعتقال نتنياهو في حال قدومه إلى المدينة، باعتباره مجرم حرب، وأصبحت مواقفه المتشددة من إسرائيل، التي كانت ستؤدي إلى إقصائه قبل بضع سنوات، مثار إعجاب العديد من الناخبين.
وباءت جهود منافسيه لتصويره على أنه معادٍ للسامية بالفشل، خصوصًا بعد أن أدت انتفاضة الشباب الأمريكي دعمًا لغزة إلى تغيير المزاج العام وسط اليهود، الذين يشكلون نحو 13% من سكان المدينة التي تُعَد موطنًا لأكبر عدد من اليهود خارج تل أبيب.
وشكّل بعض مؤيديه من اليهود مجموعة فرعية داخل قاعدة دعمه، وأطلقوا على أنفسهم اسم «اليهود من أجل زهران»، وفق تقرير لموقع «ميدل إيست آي» البريطاني.
وتتألف المجموعة من أفراد وأعضاء في منظمات يهودية مختلفة حشدت جهودها لإشراك مجتمعاتها، فضلًا عن سكان نيويورك بشكل عام، في دعم ممداني.

رعب في هامبتونز

لم يولد ممداني من فراغ، بل من رحم الحراك المليوني المعادي لسياسات ترامب، وتمكن عبر حملته من الإشارة إلى المصالح الطبقية الكامنة وراء الكراهية. وقد سخر في فيديو دعائي من سكان نيويورك الأثرياء الذين يقضون صيفهم في منتجع هامبتونز الفاخر، قائلًا: «هامبتونز تحولت إلى جلسة علاج جماعي بشأن سباق رئاسة البلدية، أي أن أصحاب النفوذ في حالة ذعر».
وحتى لو كانت الحملة معتدلة في تحدي ثروة وسلطة الطبقة الحاكمة فستواجه وابلًا من الهجمات.
فترامب هدد بإرسال الحرس الوطني إلى المدينة وسحب التمويل، ووصفت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية المحافظة خطط ممداني بأنها «سياسات عامة فظيعة»، ولتمويلها سيتعين عليه رفع الضرائب على الأثرياء، مما سيدفع المزيد منهم للهروب، وهذا بدوره سيجبر الحكومة على رفع الضرائب أكثر، في «دوامة موت مالية» كارثية.
هؤلاء وغيرهم سيعملون من أول يوم على سحق تجربة ممداني.

سيناريوهات المستقبل

يبرهن انتصار ممداني في نيويورك على عمق الأزمة الرأسمالية، التي أدت إلى تعميق الاستقطاب الشعبي في أنحاء العالم بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، واختفاء الأحزاب الوسطية التقليدية.
ولهذا السبب، حشدت حملة ممداني الراديكالية عددًا هائلًا من الناس العاديين، وباتت قوة قادرة على تعزيز حركة التضامن مع فلسطين، وإرساء أسس شبكات من النشطاء الذين يمكنهم مواجهة مداهمات إدارة الهجرة، وإحياء النقابات العمالية، والتصدي لترامب.
وبالتأكيد سيؤدي صعود نجمه إلى تعزيز نفوذ الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي، واحتدام الصراع مع الجناح المحافظ المدعوم من كبار المليارديرات، الذي سيسعى إلى احتواء راديكالية ممداني، ودفعه لتقديم تنازلات لصالح الأثرياء واللوبي الصهيوني.
ممداني أعاد كتابة تاريخ مدينة نيويورك بتوليه العمدية في زمن صعود اليمين العنصري، ولكن يبقى الانتصار الأهم هو توجيه المزاج الغاضب نحو بناء تنظيمات مستقلة قادرة على تجاوز مؤسسة الحزب الديمقراطي وبناء بديل جذري يستطيع تغيير وجه أمريكا.
دعونا نأمل.

د. سليمان صالح يكتب

لماذا يجب أن يخاف نتنياهو من فوز زهران؟!

/opinions/2025/11/5/%D9%81%D9%88%D8%B2-%D9%85%D9%85%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%87%D9%84-%D9%8A%D8%B4%D9%83%D9%84-%D9%87%D8%B2%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان