الذكاء الاصطناعي.. صراع مع «وادي السيليكون»!

في اتجاهٍ معاكس لتوجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أقرت ولاية كاليفورنيا قبل ثلاثة أسابيع عدة قوانين تتعامل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، الذي لم يعد ساحة صراع فقط بين الدول أو التحالفات الكبرى حول العالم، بل أصبح أيضًا موضع جدل داخلي في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، بسبب حالة التنافس القائمة بين الحكومة الفيدرالية والولايات حول حق الأخيرة في سنّ تشريعات خاصة بالذكاء الاصطناعي في كل ولاية.
وتقف شركات التكنولوجيا الكبرى في «وادي السيليكون» في وضع صعب، فهي وإن اضطرت إلى الاعتراف بضرورة وجود ضوابط وأطر تشريعية حاكمة، إلا أنها من جهة أخرى تخشى أن فرض قيود تنظيمية متنوّعة وتعدّد التشريعات التي تقرّها كل ولاية على حدة، من شأنه عرقلة الابتكار والتطور، وإضعاف قدرتها على التنافس في سوق داخلي وخارجي يتسارع باطراد، خاصة مع تنامي قدرة الصين، المنافس الأكبر، على تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي.
جدل منذ اليوم الأول
بدأ جدل التشريع حول الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة الأمريكية منذ الأيام الأولى لعودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في العشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، حيث اتخذ قرارات تهدم ما بدأه سلفه. ففي عام 2023، وقّع الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن على أمرٍ تنفيذي يدعو الحكومة الفيدرالية إلى وضع معايير للسلامة والأمن تحكم استخدام البرامج المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي ألغاه الرئيس ترامب في اليوم الأول من توليه منصبه مطلع هذا العام.
لم يكتفِ ترامب بإلغاء قرارات بايدن، بل قام بعد أيام بالتوقيع على أمرٍ تنفيذي لتسريع تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، ووضع خطة عمل، وإزالة ما وصفه بالتحيّز الأيديولوجي والبيروقراطية، ومنح مستشاريه التقنيين ستة أشهر لوضع سياسات جديدة للذكاء الاصطناعي بعد إلغاء «الحواجز والقيود» التي وضعها الرئيس جو بايدن.
وفي يونيو/حزيران الماضي، أعلن ترامب «خطة عمل الذكاء الاصطناعي»، وهي تتضمن العديد من الأفكار التي طرحتها سابقًا جماعات الضغط في صناعة التكنولوجيا ومستثمرو وادي السيليكون، الذين دعموا بالمال والإعلانات حملة ترامب الانتخابية العام الماضي، التي أعادته لمقعد الرئيس.
الخطة والولايات والبيئة
تضمّنت خطة ترامب أكثر من 90 إجراءً لدعم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي السريعة التطور، ودعت الخطة الوكالات الفيدرالية إلى مراجعة وإلغاء السياسات التي تعترض تطوير الذكاء الاصطناعي، وتشجيع كلٍّ من الحكومة والقطاع الخاص على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتسريع بيعها في الداخل والخارج، وبناء مراكز البيانات -التي تستهلك الكثير من الطاقة- وتبسيط قواعد الترخيص لتوصيل الطاقة. وهناك تخوّف لدى الولايات من أن خطة ترامب ستنعكس سلبًا على المواطن الأمريكي، الذي سيدفع ثمن ارتفاع فواتير الكهرباء لدعم الطاقة المخفضة لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي الضخمة.
وهاجمت الخطة ما وصفته بـ«العقيدة المناخية المتطرفة»، وأوصت برفع القيود البيئية، بما في ذلك قوانين الهواء والماء النظيفين. وهناك انتقاد من أنصار البيئة بأن طفرة بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي تُسهم في زيادة الطلب على إنتاج الوقود الأحفوري، مما يفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، وهو ما جعل الأمين العام للأمم المتحدة «نطونيو غوتيريش يدعو شركات التكنولوجيا الكبرى في العالم إلى تشغيل مراكز البيانات بالكامل بالطاقة المتجددة بحلول عام 2030.
تتضمّن خطة ترامب استراتيجية لمنع الولايات من تنظيم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بشكل صارم، حيث دعت الوكالات الفيدرالية إلى عدم تقديم التمويل للولايات ذات «القوانين واللوائح المرهقة»، وهو ما لاقى اعتراضات من ولايات سبقت الحكومة الفيدرالية في التشريعات التي تتعامل مع الذكاء الاصطناعي. لكن ترامب دافع قائلًا: «نحن بحاجة إلى معيار فيدرالي واحد سليم يتجاوز جميع الولايات، ويتجاوز الجميع، حتى لا ينتهي بك الأمر في دعاوى قضائية مع 43 ولاية في وقت واحد».
الولايات تسبق بالتشريع
لم يكن هناك تشريع موحّد في الولايات المتحدة الأمريكية ينظم حدود استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي حتى يونيو/حزيران هذا العام، لكن عددًا من الولايات سبق الحكومة الفيدرالية في سنّ تشريعات تتعامل مع التطور التقني الذي أحدثه “AI”.
كانت إلينوي من الولايات السباقة في التعامل مع التقنيات الحديثة، حيث أقرت عام 2008 قانون حماية المعلومات البيومترية، وهو من أوائل القوانين التي نظّمت استخدام تقنيات التعرف على الوجه وبصمات الأصابع والعين وغيرها من البيانات الحيوية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الثاني من أغسطس/آب 2024، أُجري تعديل رئيسي على هذا القانون لتوسيع نطاق الحماية وتوضيح مسؤولية الشركات عن تخزين البيانات واستخدامها، بعد أن أصبح الذكاء الاصطناعي قاسمًا مشتركًا في التقنيات الجديدة.
وفي الأول من مايو/أيار عام 2024، دخل قانون الإفصاح في الدعاية السياسية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي حيّز التنفيذ في ولاية يوتا، حيث يُلزم هذا القانون جميع الحملات الانتخابية التي تستخدم صورًا أو مقاطع صوتية أو مرئية تم إنشاؤها بالذكاء الاصطناعي بأن تُرفق تنويهًا يوضح أن المادة المعروضة تم إنشاؤها أو تعديلها باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وذلك لحماية الناخبين من التلاعب والتضليل الإعلامي.
وفي الثاني والعشرين من يونيو/حزيران عام 2025، أقرت ولاية تكساس قانون الحوكمة المسؤولة للذكاء الاصطناعي، ويهدف هذا القانون إلى وضع قواعد عامة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات الدعاية السياسية، والوظائف الحكومية، والتعليم، بحيث تلتزم الجهات المعنية بالشفافية، وعدم استخدام الذكاء الاصطناعي للتأثير غير المشروع في الرأي العام. ومن المقرر أن يبدأ تطبيقه في الأول من يناير/كانون الثاني عام 2026.
أما ولاية كاليفورنيا، فقد أصدرت قانون الشفافية في الذكاء الاصطناعي في التاسع عشر من سبتمبر/أيلول عام 2024، وسيدخل حيّز التنفيذ في الأول من يناير/كانون الثاني عام 2026، ويلزم هذا القانون الشركات التي تطور أو تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي بالإفصاح الواضح عن استخدام النماذج اللغوية أو الأدوات الذكية في تعاملها مع المستخدمين أو في إنتاج المحتوى.
وفي الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أقرت ولاية كاليفورنيا عددًا من القوانين المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، كما أصدرت تعديلًا لقانون الشفافية في الذكاء الاصطناعي يوسّع نطاق الالتزامات على المنصات الكبرى والمبرمجين، وقانونًا يُلزم مطوري البرامج التي تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي، مثل المساعدات الصوتية أو الدردشات التفاعلية، بأن يلتزموا بإعلام المستخدمين أنهم يتحدثون مع برامج تستخدم الذكاء الاصطناعي وليس مع عناصر بشرية، وهي الولاية الأولى التي تضع ضوابط قانونية لمثل هذه الأنظمة.
من أجل وادي السيليكون
رغم أن الولايات سبقت العاصمة واشنطن في التعامل تشريعيًّا مع تحديات الذكاء الاصطناعي، إلا أن التدخل الرئاسي متهم بأنه مدفوع بمصالح الشركات الكبرى، وأنه هدية لأباطرة «وادي السيليكون» الذي يضم عمالقة صناعة التكنولوجيا.
وتقول سارة مايرز ويست مديرة معهد “AI Now”: «إن خطة عمل البيت الأبيض للذكاء الاصطناعي وضعها مليارديرات التكنولوجيا لمصالحهم، ولن تخدم مصالح عامة الناس». كما أن «موقف الإدارة يعطي الأولوية لمصالح الشركات على حساب احتياجات الناس العاديين الذين يتأثرون بالفعل بالذكاء الاصطناعي».
أما جيم سيكريتو، أحد قيادات وزارة التجارة في إدارة بايدن، فاعتبر أن تسريع الابتكار أمر ضروري، لكن تفكيك الحواجز المسؤولة يهدد بتحويل ثورة الذكاء الاصطناعي في أمريكا إلى مقامرة متهورة.
وقد لقيت خطة ترامب اعتراضًا منظمًا، حيث وقع ما يزيد على 100 مؤسسة تضم نقابات عمالية، وجمعيات آباء، ومنظمات عدالة بيئية، ودعاة للخصوصية، قرارًا يعارض تبنّي ترامب لسياسة الذكاء الاصطناعي التي تقودها الصناعة، ويدعو إلى «خطة عمل شعبية للذكاء الاصطناعي» من شأنها أن «تخدم مصالح الشعب الأمريكي في المقام الأول».
كما أن تنظيم الذكاء الاصطناعي كان نقطة خلاف رئيسية في المفاوضات الأخيرة بشأن مشروع قانون الميزانية الضخم، الذي أقره الكونغرس في يوليو/تموز الماضي، حيث كان مشروع القانون يتضمن في الأصل وقفًا لمدة عشر سنوات يمنع الولايات من تنظيم تقنيات واستخدامات الذكاء الاصطناعي، لكن المشرعين رفضوا بحزم هذا التقييد الذي يحصر التشريع في العاصمة واشنطن.
ولا يبدو أن الولايات ستتوقف عن سباق التشريع وفق ظروف كل ولاية، والوقوف أمام سطوة الحكومة الفيدرالية التي يقودها ترامب، كما لا يبدو أن ترامب سيتوقف عن دعم عالم البيزنس، الذي هو أحد رجالاته قبل أن يصبح رئيسًا، وهذا معناه استمرار الصراع مع وادي السيليكون حتى إشعارٍ آخر.
