الوزير.. وقتيل التعنيف

أسامة بسيوني مدير الإدارة التعليمية بالباجور، بمحافظة المنوفية، في مصر الذي أصيب بأزمة قلبية بعد تعنيفه في زيارة لوزير التعليم (منصات التواصل)

أن يسقط أسامة البسيوني مدير إدارة الباجور التعليمية- محافظة المنوفية المصرية (شمال العاصمة القاهرة)، صريعا كمدا وقهرا، ليصاب بالسكتة القلبية، ويغادر الدنيا إلى رحمة مولاه، فهذا طبيعي في زمن تتهاوى فيه قيمة “التعليم”، في سلم، وفقه الأولويات.

فالرجل وجد نفسه مُهانا ملوما، يتوالى عليه التأنيب والتقريع والتعنيف بكلمات قاسية، من قبل مساعد وزير التربية والتعليم الدكتور أحمد المحمدي (حسب رواية مدير تعليم المنوفية الدكتور محمد صالح)، ثم يؤمر بمغادرة المكان فورا، والتوجه إلى مكتب الأخير في العاصمة الإدارية، ومعه استقالته. هذا، كله أمام “الوزير محمد عبد اللطيف”، ومرافقوه والحضور، أثناء تفقده لمدارس الباجور.

مدرسة.. أم بيت مورث

“الدكتور المحمدي”، بإقدامه على ما اقترفه بحق البسيوني.. لم ينطق عن هوى، بل بأمر من الوزير، أو بوحي منه، وإلا لكان قد منعه، وألزمه الصمت.

فالوزير، وتابعه المساعد، نسيا أو تناسيا، أنهما يطردان الراحل البسيوني، من مدرسة الشهيد طيار محمد عادل شبل، المملوكة للشعب، وليس من البيت المورّث عن آبائهم.

الراحل، حسبما، يروي المتعاملون معه، على وسائل التواصل الاجتماعي.. رفيع الخُلق، طيب القلب.. اعتاد العطاء، والإخلاص في عمله، طوال مسيرته الوظيفية (35 عاما). خدوما متواضعا، لا يعرف التسلط على مرؤوسيه، على عكس مسلك الوزير ومساعده. اعتاد الانتفاض لمساعدة الناس (طلابا، ومعلمين، وغيرهم)، لديه قيم، ومُثل المُعلم، كما ينبغي أن تكون.

إنكار.. ودخان كثيف

“البسيوني”، بمثل هكذا صفات وخُلق، كان لا بد له أن يسقُط صريعا للصدمة، تطرحه أرضا، ليموت هربا من الدنيا كلها، فكيف له بمواجهة هذا التسلط بحماقة وغطرسة، وإكراه بالذهاب لمكتب الوزير؟ لو تلفظ ببنت شفة، لربما أمطره الحضور بمزيد من التأنيب والإهانة. آية ذلك، إنكار العديد من الحاضرين للقصة كلها، خشية العواقب.

تذكرت المثل الشعبي القائل “مفيش دخان من غير نار”، وأنا أطالع المنصات الصحفية الإلكترونية المصرية يوم الواقعة (الاثنين الماضي)، وبعده.. كلها، تنقل نُسخ متطابقة -دون أدنى خروج عن النص-، من “بيانات متضاربة لوزارة التعليم”، نفيا للواقعة، وأن الوزير أشاد بالفقيد، فهذا مما يصدُق عليه المثل، ويشي، بأن الدخان الكثيف على منصات التواصل الاجتماعي، متخلف عن نار أشعلها الوزير أو مساعده.

السلطة حصرا للمحافظ.. وليس الوزير

ليس للوزير، أو الخفير تعنيف موظف تحت رئاسته، بل العكس هو الصحيح، فالقانون يحظر على المسؤول الموظف كبيرا أو صغيرا، مثل هذا التعنيف أو التأنيب أو الإهانة، أو التخويف بأي شكل، أو صيغة لمرؤوسيه. هناك آليات مشروعة، ومُشرِّعة للتحقيق، ومحاسبة المُهمل، أو المُخالف -إن وجد-، وعقابه إذا لزم الأمر، وحسب الحالة (إداريا، أو تأديبيا، أو جنائيا).

فلا يجوز إذن، للوزير أو مُساعده أو غيرهما، تبكيت البسيوني -أو غيره-، أو التعدي عليه لفظيا، وإهانته على انفراد، أو أمام الجمع. المشكلة، أنه ليس من سلطة وزير التربية التعليم، عقاب موظفي المدارس، والإدارات التعليمية، والمعلمين، فهذه السلطة حصرا للمحافظ في نطاق المحافظة التي يتولاها، بحكم قانون الإدارة المحلية (مادة 27 مكرر 1)، فهو المختص قانونا بتأديبهم ونقلهم، وطلب التحقيق معهم. نعلم جميعا، مثلما يعلم الوزير والخفير، أن مثل هذه الجولات سواء معلنة أو سرية، هي لالتقاط الصور مع التلاميذ، للنشر و”الشو” الإعلامي.. لا أكثر.

فليس منطقيا، أن الوزير، يمكنه الإلمام بالحالة التعليمية للمدرسة التي يزورها، خلال الدقائق التي يمضيها في التصوير، وكذا، فالمعلوم، أن هذا الوزير وأمثاله، يتعمدون الإطاحة ببعض الرؤوس من القيادات المحلية، للظهور بمظهر الحسم والانضباط، بغض النظر عن موضعية قرارات الإطاحة، التي لا يمكن التحقق من صوابها دون تحقيق مُحايد وعادل.

تنمر وظيفي.. أم قتل غير عمدي؟

ربما لا يعلم كثيرون، ومنهم الوزير ومرافقه المُحمدي، أن ما جرى من تعنيف لـ”البسيوني”، وإهانته لفظيا، وتقريعه، وطرده.. قد يُشكل جريمة “تنمر وظيفي”، مُعاقب عليها قانونا.

فـ “التنمُر”، في قانون العقوبات (مادة 309 مكرر (ب)، هو “كل قول أو استعراض قوة أو سيطرة للجاني أو استغلال ضعف للمجني عليه بقصد تخويفه، أو وضعه موضع السخرية، أو الحط من شأنه، أو إقصائه من محيطه الاجتماعي”، والعقوبة، وفقا للمادة ذاتها، بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، إذا ارتُكبت الجريمة في مكان العمل، أو كان الجاني (الوزير، أو مساعده، أو كلاهما)، ممن لهم سلطة عليه، فهل يُحاسب الوزير وتابعه على فعلتهما المُجرَّمة قانونًا؟ أم أن على رأسيهما ريشة؟ بحسب “الدكتور أحمد محمد عناني”، المحامي، فالوزير أو نائبه يمكن أن يتحملا المسؤولية الجنائية، في حال ثبوت أن “التوبيخ”، كان مفرطًا، وأدى إلى وفاة البسيوني، واستشهد، بمحكمة النقض في حكمها رقم 15722 لسنة 76 قضائية، الذي انتهت فيه إلى أن “الوفاة نتيجة السكتة القلبية، الناشئة عن توبيخ لفظي قاسي، تُعتبر، بمثابة قتل غير عمدي”.

عزل “الوزير”.. والتحفظ على الهواتف

توالت طلبات الإحاطة لعدد من أعضاء مجلس النواب، منهم الدكتورة سناء السعيد، وإيهاب منصور، وسحر بشير معتوق، وأيمن معاذ، مُطالبين بمناقشة القضية، وإقالة الوزير محمد عبد اللطيف، وقدّم العضو هاني مصطفى خضر، بيانًا عاجلًا أمام المجلس، انتقد فيه “بيان الوزير” عن الواقعة لتعمُده الكذب، وأنه دليل على الغطرسة، وسوء الإدارة وعدم تحمل المسؤولية.. منتهيا، إلى أن الوزير أصبح قدوة سيئة للطلاب، وعزله واجب. فيما قدّم عدد من المحامين، بلاغات إلى النائب العام لفتح تحقيق شامل، وطلب مقدم أحد البلاغات التحفظ على هواتف الوزير، ومساعده المحمدي، والبسيوني، إذ، يمكن العثور فيها، على أدلة حاسمة، حول الضغوط النفسية على الفقيد، ومدى تأثيرها فيه.

بقي أن هذه التحركات الغالب عليها المظهرية، و”الشو”، والتسلط على المعلم الذي يتحمل فوق طاقته.. لن تحل مشكلات التعليم، فـ”الحلل”، يستدعي خططا، ودراسات، وحوارات مجتمعية فعلية، يشارك فيه المعلم، وولي الأمر، والمُختصون، وليس بالتنمر على المعلم، وقتله ولو بغير عمد.

 

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان