فتوى القرضاوي الصادمة التي لم أجرؤ على تنفيذها

ترددت كثيرا في كتابة هذا المقال، وقصة هذه الفتوى، فهي تتعلق بفتوى خاصة أفتاني فيها شيخنا المرحوم العلامة القرضاوي، لأن الفتوى لا تتعلق بي وحدي، بل تتعلق بأطراف أخرى من أسرتي، ورغم انتهاء الظرف الذي تتعلق به الفتوى، إلا أنني كنت في حيرة من أمري، هل أكتب الحدث والفتوى، رغم مرارته، أم أكتمه؟ وترجح لدي حق العلم، وحق إخراجه للناس، لأن الفتوى وإن كانت تخصني في جزء منها، فإنها من حيث هي فتوى تتعلق بأناس آخرين، قد يكونون في الظروف نفسها، وفي الحال نفسه، وربما وقعوا في الحيرة ذاتها، ولعل فيما أذكره يكون هاديا لقرار مصيري بالنسبة إليهم، كما أن ما دار من حوار مع شيخنا حول الموضوع فيه ما يتعلق برأيه الفقهي في مسألة، كان له فيها توجه فقهي واضح، ومن أمانة العلم رواية الموقف.
غيبوبة ابنتي إثر حادث أليم:
كانت لي ابنة -رحمها الله-، قد أصابتها سخونة، فذهبت بها للطبيب، وبعد الكشف، ذهبت لصرف العلاج من الصيدلية، وقد كان نظام الدفع وقتها في قطر ماليا، فأبطلوا وقتها الدفع إلا بـ”كارت” البنك، ولم يكن معي “الكارت”، واضطررت للعودة بالبنت إلى البيت، حتى أحمل “الكارت” وأعود للمستشفى لصرف العلاج، وتركت البنت لأمها، ولم أكن أعلم أنها قد خرجت خلفي دون أن أدري، وبينما أعود بسيارتي للخلف، فوجئت بشيء تحت عجلة السيارة الأمامية، ظننت شيئا مرتفعا عن الأرض قليلا، لأتفاجأ بأن من مرت عليها السيارة طفلة ممددة على الأرض، نزلت مسرعا من السيارة لأجدها ابنتي (سارة).
جاءت الإسعاف وحملتها، وقد فقدت الوعي منذ تلك اللحظة حتى وفاتها، لمدة خمس سنوات متواصلة، كان عمرها عامين وتسعة أشهر وقت الحادث، منذ اللحظة الأولى رزقنا الله بطبيب كان صريحا جدا، فأخبرني وزوجتي أنه ربما يكون هناك وفاة “إكلينيكيا” للبنت، ولكن رئيسه في العناية المركزة أراد تخفيف الأمر علينا، فأخبرنا أن الحالة الآن معروفة، ولعل الله يكتب لها الشفاء وتفيق من غيبوبتها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمناجم الملح في سيوة.. كنز أبيض وسط الرمال
الحويني نسيج وحده 3/2 «أبو إسحاق الحويني في ميزان الشيخ كشك»
كشف المستور في “أزمة زيزو”
بعد أشهر عدة كانت الصورة قد أصبحت واضحة، أن الغيبوبة مستمرة للبنت، والأمل في الإفاقة -فضلا عن التحسن- أمر صعب، فمعظم الأعصاب المهمة في الجسم قد تضررت، ووقت الحادث أخبروني أن المخيخ كان قد بقي له مليمتر، لو نزله لماتت فورا، لكن بقاءه في هذا الجزء من الرأس، أخر الوفاة، وبدأنا نتعامل ونتأقلم مع الحالة، من حيث مرافقة البنت، ورعايتها، وقاموا بعمل أنبوب من البطن للمعدة، لنضع لها فيها الحليب المغذي للجسد.
فتوى القرضاوي لنا بخصوص ابنتي:
زار شيخنا القرضاوي ابنتي في المستشفى مرتين، رغم مشاغله وسنه، وكان لديه اطلاع بتفاصيل حالة البنت، وبعد أشهر من الحادث، كنت في زيارة له في مكتبه، وفوجئت به يناقشني في حالة البنت، ثم قال لي: أريد أن أصارحك برأي في الموضوع، تشجع وتقبله، فقلت له: تفضل، فقال: امنع الحليب عن البنت، فلا داعي لكل ما تقوم به، وقد اتضحت لك الأمور أن لا أمل من الإفاقة، ولا حياة لها كاملة، ظننت أنه غير متصور لحالة البنت، فقلت له: لكن هذا معناه (موت بالتجويع)؟! فقال لي: ليس موتا ولا قتلا، أنت يا ابني تنفخ البنت نفخا، ولا تعيش حياة الإنسان الحي، هي ميتة، وأنت تطيل من بقائها بهذا الوضع.
قلت له: إنها تنمو، ويكبر جسدها، فقال لي: هي لا تنمو، أنت تنفخ فيها بوضع الحليب فقط، هل تقول لك: أنا جوعانة أطعمني، أنا عطشانة اسقني؟! قلت له: لكنها ليست على أي أجهزة، لا تنفس ولا غيره، هي تتنفس طبيعي، وظل الشيخ على رأيه الفقهي، الذي يبدو أنه لم يكن رأيا عابرا لديه، فلم يخبرني به مرة واحدة، بل كل فترة يسألني عن حال البنت، ثم يعيد لي فتواه، أو رأيه الذي ذكرته، وفي مرة كان معي بعض أبنائه، وبعض أصهاره، ونناقشه جميعا في الرأي، والشيخ على قوله.
قلت له: صعب علي أن أنفذ هذه الفتوى، فأنا من قمت بالحادث، فحتى لو صارت عندي قناعة بها يصعب علي جدا، فما رأيك تفضل وناقش زوجتي، رفض الشيخ ذلك بشدة، وقال: كيف أقنع أمًا بذلك؟! هذا شأنك وشأنها، إذا أنت نفسك رافض للرأي، فما بالك بزوجتك، ستكون أشد منك وأصعب في الأمر، وبعد وفاة ابنتي، بعد أن عزاني الشيخ، كانت جملته التالية: ألم أقل لك يا ابني من قبل، لماذا عذبت نفسك كل هذا العذاب؟!
ثم حكى لي عن مسؤول عربي كبير، اتصل به يستفتيه في حالة كهذه، وقد كان قد مات موتا سريريا، وعلى الأجهزة، وأنه وإخوانه ارتضوا بما سيقول لهم الشيخ، فأفتاهم برفع الجهاز، وقد أخذوا بفتواه.
أسباب عدم جرأتي على الأخذ بالفتوى:
والحقيقة أن الذي منعني من أن أجرؤ على مجرد التفكير في فتوى الشيخ، أسباب عدة، ذكرت السبب الأول في الفقرة السابقة، وهي أني من قمت بالحادث، وهناك أمور أخرى جعلتني أتردد كثيرا في الأخذ بها، أو التفكير نفسه، فقد فوجئت بعد بلوغ ابنتي سن الخامسة، وهي في الغيبوبة منذ عامين وثلاثة أشهر، أننا وجدنا دماء في ملابسها، وظننا ذلك نزيفا، فلما ذهبنا للأطباء، قالوا لنا: هذا ليس دم نزيف، إنه دم حيض، ففتحنا أفواهنا مستغربين، كيف؟
فقال الأطباء: إن مثل هذه الحالات الخاصة، والغيبوبة، من أهم أعراضها، أن يحدث بلوغ مبكر جدا للمريض أو المريضة، وهذا الأمر جعلني، أتوقف، إذ إن نموها لم يعد مجرد جسد ينفخ بالحليب كما ناقشني شيخنا، بل هنا علامات أخرى، ولا أتذكر الآن، هل ذكرت هذا للشيخ أم لا؟
لجنة تتابع الوفاة السريرية:
والسبب الثاني: أني في هذه الفترة، كلمني صديقنا وشيخنا الشيخ عبد السلام البسيوني، لأنضم معه في لجنة تمثل الفقهاء، مع لجنة أخرى تمثل الأطباء، في أحد المستشفيات، وذلك كي تقرر اللجنة المكونة من المشايخ والأطباء، متى يرفع الجهاز عن المريض، بعد العودة والإذن من أهله، لكن يكون قرار اللجنة علميا وفقهيا، وقد اشترطنا أن تكون اللجنة الفقهية من ثلاثة، والطبية كذلك من العدد نفسه، لأنها لو كانت من شخص واحد، فسيكون منفردا في القرار وهو ما لا يعد صحيحا، ولو كانت من اثنين، فربما اختلفا، فيوافق شخص والآخر يرفض، فكيف يحسم ذلك؟ لكن تكوينها من ثلاثة معناها وجود أغلبية دائما، أو إجماع، سواء بالقبول أو الرفض.
في هذه الأثناء بدأت أمرّ مع المشايخ على حالات، وصادف أن مررنا على حالات الأطفال، ولمحت في جانب قصي من القسم، شخصا يتبتل ويتلو القرآن والدعاء عند طفل، اقتربت منه، فوجدتني أعرفه، فهو صديق قديم من أهل القرآن والمتدينين جدا، وقد كان محروما من الإنجاب، وأنجب أخيرا، ولكن الله ابتلاه بأن الطفل كان به تشوهات، وحالته صعبة، فلم أجد في وجه الطفل ملامح كأي طفل، ربت على كتفه، وقد حكى لي، ووجدته صابرا صبر الجبال، وهو يرجو أن يعيش هذا الطفل بأي شكل، وبأي ملامح.
ثم كان موقف اللجنة التي كنت معهم، أنهم كانوا متحفظين جدا في مثل هذه الآراء، وغلبتني معهم عاطفة الأب الذي يرى نفسه سببا لبلاء ابنته، ولم أجرؤ على أن أفاتح زوجتي في الموضوع، كنت ألمح من بعيد، ولا أجرؤ على الدخول في الموضوع، حتى بعد وفاة ابنتي بسنوات، وأردت من سردها الآن أداء أمانة العلم، ورحم الله الشيخ القرضاوي، وخفف عن كل صاحب معاناة.