نصرة فلسطين بين الدين والسياسة

على مدى نحو ثلاثة عقود، وتحديدًا منذ عام 1948 مع بداية المواجهة الشعبية العربية للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وحتى 1977، تاريخ زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات للكنيست، كانت القضية الفلسطينية، قضية العرب والمسلمين جميعًا، شعوبًا وحكومات، دينًا وسياسة، أنظمة وأحزابًا، طلبة وعمالًا، سياسيين ومثقفين، لا فرق في ذلك بين كبير وصغير، رجل وامرأة، الاتجاهات السياسية كلها، الطوائف الدينية جميعها، الحكومات المتداولة والأجيال المتعاقبة، توافق تام على أننا أمام احتلال صهيوني غاشم، يجد في القتل غايته، في الإبادة ضالته، يستند في ذلك للأسف إلى نصوص عقدية مزيفة، وبروتوكولات صهيونية تمثل خطرًا على العالم أجمع.
اختلف الأمر على المستوى الرسمي، خلال العقود الخمسة الأخيرة، 1977-2025، من تغيير في العقيدة الجهادية والنضالية لتحرير الأرض، إلى خنوع وخضوع واستسلام، واتفاقيات منفردة، حتى بلغ منتهاه باتفاقيات تطبيع مع العدو المحتل، مع أطراف من خارج دول المواجهة، تضمنت إقامة علاقات ثنائية على المستويات كلها، السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، حتى أصبح الحديث يدور حول اندماج الديانات، في إطار اختراع أمريكي، لم يأت ذكره في أي كتاب سماوي، ولم تتفتق في السابق الأذهان لطرحه من أي مؤلف دنيوي.
الآن، ومع تمادي قوات الاحتلال في الإبادة، التي طالت أرواح نحو 60 ألفًا من الشعب الفلسطيني، ما بين رجل وامرأة وطفل، في مدة زمنية تقل عن عام ونصف العام، كشفت التحولات عن وجهها القبيح، فقد تفجرت الخلافات في الأوساط والعواصم والأروقة والمنتديات العربية، ما بين مؤيد للمقاومة ورافض لها، داعم للقضية ومنسلخ عنها، منشد للجهاد ومنكر له، إلى غير ذلك من سجال، تضيق به وسائل الإعلام، وتئن منه “السوشيال ميديا” ولا تخجل منه منابر دور العبادة، إلى الحد الذي ظهرت فيه طوائف تنحاز للاحتلال، وتنكر الحق الفلسطيني، ولا تخجل في ذلك من الجهر بالقول والفعل، من خلال جماعات وجمعيات أهلية تارة، وأنظمة رسمية تارة أخرى.
القضية هي القضية، لم يتغير شيء، الاحتلال هو الاحتلال، لم ينقشع، بل إن المحتل بالغ في طغيانه، توسع في احتلال الأرض، أوغل في فنون القتل، تمادى في الدمار على مرأى من العالم ومسمع، وبدلًا من أن يكون ذلك دافعًا لمزيد من الترابط العربي، والنهوض لنصرة الشقيق، والإصرار على استعادة الأرض، كانت الفاجعة، تلك الخلافات كلها، تلك الفرقة كلها، هذا التشرذم كله، وعلى المستويات كافة، بين السياسيين والمثقفين ورجال الدين والأحزاب، والفئات كلها تقريباً، نتيجة عوامل كثيرة، تتعلق بدور أجهزة الإعلام، المحلي منها والخارجي، التي واكبت زيارة السادات المشار إليها، ثم الاتفاقيات المعلنة والخفية، أيضًا دور الأنظمة الحاكمة، السابقة والحالية في العالم العربي عمومًا، دور المناهج الدراسية في العالم الإسلامي ككل، التي عبثت بها أصابع خارجية، في إطار صفقات مخجلة، إلى غير ذلك من عوامل تتكشف بين الحين والآخر.
الامتثال لإرادة الشعوب
الأمر الأكثر أهمية، هو أننا أمام نصوص دينية ثابتة لم تتغير، ما يتعلق منها بالجهاد، أو الدفاع عن الأرض والعرض، إلا أن علماء الدين يتغيرون ويتشرذمون، وكانت النتيجة ما نحن فيه الآن، من بيانات حاسمة هنا تدعو للجهاد، وفتاوى مهترئة هناك تحض على الاستسلام، أيضًا نحن أمام دراما سياسية موثقة لم تتبدل، خصوصًا ما يتعلق منها بتأريخ جرائم الاحتلال وعنصريته، إلا أن المشتغلين بالسياسة يناورون ويتاجرون، وكانت النتيجة ما نراه الآن، من رقص على جثث الشهداء تارة، في إطار تمثيليات فجة، والاكتفاء بهتافات الشجب والاستنكار تارة أخرى، ذرًا للرماد في العيون، وكانت النتيجة الطبيعية، ضياع الحق الفلسطيني، تحت سمع الأنظمة وبصرها ورجال الدين والسياسيين على السواء.
يجب أن نعترف بأن خلافات رجال الدين أرهقت فلسطين، بل أرهقت الأمة قاطبة، كما أن أهواء رجال السياسة جعلتهم يتاجرون بالقضية، في الوقت الذي أصبح فيه رجل الشارع بلا حول ولا قوة، لا يستطيع الامتثال للتعليمات الشرعية بالجهاد، ولا يقوى على مواجهة المستسلمين للأمر الواقع، ممن بيدهم مقاليد المنع والإجازة، أو الأمر والنهي، وهي معضلة في حد ذاتها، يمكن أن تؤدي إلى نقل الصراع داخل كل قطر على حدة، بدلًا من مواجهة العدو الحقيقي، وهنا يكمن الخطر الذي يجب تداركه، بالامتثال لإرادة الشعوب، بدلًا من الخضوع لإملاءات خارجية، لا تنحاز أبدًا إلى صالح الأمة العربية عبر التاريخ.
قد ينبري البعض بالدعوة إلى عدم الربط بين الدين والسياسة، فيما يتعلق بالتعامل مع العالم الخارجي، وقد يرى البعض أننا أمام قضية سياسية خالصة، على الرغم من التعامل الصريح للعدو معها باعتبارها قضية دينية أولًا وأخيرًا، إلا أننا في الأحوال كلها أمام احتلال أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو الأمر الذي يجب احترامه، حين إصدار بيان أو فتوى من رجال الدين، تحتم على الأنظمة السياسية وضعها في الاعتبار، دون إشعال معتركات جانبية للجماعات أو الطوائف، باستخدام بعضًا من رجال الدين والدنيا من زمرة السلطان، أي سلطان.
الجهاد بتعليمات أمريكية
وعلى الجانب الآخر، أو الشق السياسي، فنحن أمام عدو يجاهر بأطماعه في كل دول الجوار وما بعدها، ينشر خرائطه الواضحة في هذا الشأن، بما يجعلنا أمام قضية أمن قومي، تشمل الأقطار العربية كلها، وهو ما يجعل من انتفاضة الشعوب ضد هذه الأطماع أمرًا طبيعيًا، يجب أيضًا عدم تجاهله، بعدم الانتقاص من حق هذه الشعوب في فرض رؤيتها، خصوصًا بعد أن بدا واضحًا مدى الاستسلام، الذي لا تخفيه الأنظمة، الذي يصل إلى حد الخوف والرعب من فقدان السلطة في كثير من الأحيان، بدعاوى الحكمة والتريث والتؤدة، حتى أصبح العدو لا يتورع عن الإعلان عن الهدف المقبل، دون أدنى تحرك استباقي لمواجهته في عقر داره، كما علمتنا مجريات التاريخ.
قراءة الواقع تشير إلى أن الأمة العربية، سياسيًا، أو على المستوى الرسمي، استسلمت للأمر الواقع، أو بمعنى آخر تخلت عن القضية الفلسطينية، وذلك بالتخلي عن خيار المقاومة أو النضال أو الجهاد، بينما علماء الإسلام يقرون بفرضية الجهاد في مواجهة هذه الإبادة بحق شعب شقيق، حتى وإن خرج عن صف العلماء بعض ممن يعرف عنهم القرب من البلاط السياسي، كما هو حال معظم المشتغلين بالسياسة أو الإعلام، في مواجهة الجماهير الغفيرة، التي تطالب بضرورة نصرة الشعب الفلسطيني، دون جدوى، وهو أمر طبيعي في غياب الحكم الديمقراطي الرشيد.
وفي الأحوال كلها، يجب أن نتذكر زخم الشباب العربي المجاهد، على مدى سنوات الحرب الأفغانية في مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق، خلال ثمانينيات القرن الماضي، لمجرد أنها كانت التعليمات الأمريكية حينذاك، والشباب العربي في السودان وسوريا والعراق، تحت عناوين “داعش” وأخواتها، أيضًا لأنه كان توجهًا أمريكيًا، والشباب العربي في ليبيا والصومال وحتى البوسنة الهرسك، للأسباب نفسها، وقد أغمضت العواصم العربية كلها، دون استثناء، أعينها عما يجري حينذاك، إلا أن الأمر حينما يتعلق بفلسطين، فيصبح رهنا بالدين والسياسة، والمصالح والتريث، والحدود المغلقة، والقوانين والمواثيق، وعلماء السلطة، إلى غير ذلك من مزاعم وعثرات، لم يعد يستسيغها العقل، ويأباها الضمير.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.