تونس في وضع “ستاند باي”

الرئيس التونسي قيس سعيّد (غيتي)

نحتاج إلى ترجمة دقيقة للوضع الذي يكون فيه المرء واقفا، لا يمكنه التقدم ولو رغب، ولا يمكنه تجنُّب التراجع ولو حاول، ولا يمكنه الذهاب يمينًا أو شمالًا، ولا يمكنه أن يطير أو أن يخرق الأرض فيخفي وجهه من عار القرون. أسوأ وضع “محلك سر”، وهو وضع يوحي بحركة في المكان الواحد لنقل وضع حياة كأنها موت.

هنا تونس الآن. “أحدهم” يمنع البلد من السقوط، “أحدهم” في مكان ما يحاول تدبير رواتب الموظفين. حدود جهده تقف هناك. نقوم كل صباح نسترزق تحت الحد الأدنى. ليست لدينا قدرة على وضع خطط متوسطة المدى كبناء بيت أو تهيئة عرس ولد، أما التخطيط لرحلة إلى إسطنبول وتغيير طقم ملابس فهذا صار بطرًا حرامًا.

في هذه الأيام، تتناثر مقالات على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن ما يمكن أن يقع في المستقبل المنظور، وهل هناك حل سياسي يتهيأ لوضع حد لحكم قيس سعيّد؟ هذه المقالات تكشف قلقًا، وتكشف تطلعًا، وتكشف أيضًا تكلسًا سياسيًّا، ليس في دائرة الحكم، بل في دائرة المعارضة الباحثة أو الحالمة بحل ومخرج. سنحاول الإسهام في النقاش الداخلي مع احتفاظنا بقناعة شخصية ثابتة، هناك حل قادم لكنه بفعل قوة خارجية، فخلاصة تاريخ تونس عندنا أنه بلد لا يتغير من داخله.

فضيلة “الرجوع إلى الحق”

كان الرجوع إلى الحق فضيلة، لكنه ليس فضيلة عند المعارضة التونسية بل هو كسر أنوف. أيقنت المعارضة التونسية بفساد رأيها وسلوكها في المسألة الديمقراطية لكنها لا تعترف.

لقد تمتعت بحرية مطلقة منذ ليلة سقوط “بن علي”، وصالت وجالت بكل أنواع الخطاب حتى حق الذكور في الزواج بذكور. وجهت كل حريتها في “ترذيل” العملية السياسية التي يشارك فيها الإسلاميون، فأوردوا البلد التهلكة حتى وجد قيس سعيّد (ومن يستعمله) منفذًا للسلطة، فأعدموا الحريات وقطعوا الألسن. ما زال هناك طيف واسع من تلك المعارضة لا ينتقد ما جرى منذ الثورة حتى 2019، لذلك عندما يُطرح عليه الاختيار بين العودة إلى حالة ديمقراطية يشارك فيها إسلاميون والمرحلة الحالية، يعلن بلا مواربة “ما دام الإسلاميون في السجون فالوضع مريح ويجب أن يستمر”.

هذا التيار ليس قليلًا، وهو يتألف من اليسار الاستئصالي ومن فلول منظومة “بن علي”، وتقودهم عبير موسي من سجنها (وحيث هي ترفع دعاوى ضد إسلاميين)، وتمول هذا التيار طبقة المال الفاسد الخائفة من كل احتمال محاسبة منذ الثورة. وهذا التيار متغلغل في مفاصل الإدارة والإعلام والقضاء والأمن خاصة، وهو يوجه آلة القمع حتى الآن، ويشن حربًا على كل من يُظهر أي درجة من النقد الذاتي لما فعلته المعارضة سابقًا أو يشي كلامه بدعوة لتفريج كربة البلد وفتح قنوات تواصل بين السلطة والمعارضة.

هذا التيار فاعل حقيقي، وهو المالك الفعلي لمفاتيح السجن. ولذلك، فإن أطياف المعارضة “السوفت” أو التي قد تجلس إلى طاولة تفاوض أو تنسيق سياسي مع إسلاميين معارضين، تخشى هذا التيار وتخضع له. هذا التيار لا يهتم بمصير البلد، إنه يملك هدفًا واحدًا هو “تونس بلا إسلاميين”، وهو يرى هدفه متحققًا فعلًا، فلماذا يسمح بتغيير وضع قد يخسر فيه مكاسب كبيرة؟ مفتاح فهم لحظة تونس المتخشبة الآن هو فهم هذا التيار ومن صنعه ولمصلحة من يعمل، لأن نتيجة فعل هذا التيار تنتهي في الضفة الشمالية.

عقدة التعامل مع النهضة

في ما يتناثر من قول عن الأفق السياسي، تظهر لنا عقدة النهضة من جديد. حتى 2024، كان الحديث عن نهاية النهضة يبلغ درجات عالية من اليقين. لم نعد نقرأ أو نسمع إلا “تفككت النهضة واندثرت وذهبت هباء في الريح”. لكن البعض لحس لحديثه العلمي. والآن نسمع حديثًا عن كيفية التعامل مع حزب النهضة للخروج من وضع التخشب السياسي. حزب النهضة موجود في مكان ما (كم هو وأين هو؟ هذه تفاصيل).

لكن في ما نسمع تخشب آخر، يدور حول رغبة مكتومة، حبذا لو توفر النهضة قوة معارضة في الشارع. هذه الرغبة من جنس رغبة سابقة، حبذا لو تصوت لنا النهضة ثم تعود إلى كهفها. حبذا الإسلاميون الذين يشتغلون حافلات نقل عام لإيصال النخبة المتنورة إلى مراكز القرار دون مشاركة النخبة المناصبَ، ودون المن عليها أو طلب ثمن في مكان ما.

وهناك وجه آخر لهذا القول، يعلن إعادة اكتشاف الحق في الحياة، يقول بحق الإسلاميين في العمل السياسي لكن دون عار مشاركتهم في شيء، لندعهم يعيشون مثل البعير المعبد، فلا نتورط في قتلهم أو الجلوس معهم.

وخلاصة القولين أننا لا نسمع تغييرًا في قول النخب بشأن الإسلاميين، ونعتقد أن عقدة النخب مع الإسلاميين لم تُعالَج ولا يبدو أنها ستُشفى من تلقاء نفسها، لهذا يستمر الوضع المتخشب.

حزب النهضة الحاضر بالغياب

لقد لمسنا تململًا، ورأينا ضيقًا بالانقلاب وأهله. وعبارات التذمر والنواح تملأ الفضاء، ولكن لا نقرأ أفكارًا عن كيفية الخروج. أي فكرة حل أو بديل تصطدم بصخرة الموقف مع النهضة، أو بحق النهضة في المشاركة.

كل تفكير في حل عبر صندوق انتخاب يعني مشاركة إسلاميين بوجوههم أو من وراء ستار، وبالنظر إلى خراب النخب واندثار حزيباتها، فإن ركام النهضة الباقي يمكنه أن يرمم نفسه ويأخذ قسطًا قد يكون القسط الأوفر.

في تونس، وفي ذاكرة الجهات الأمنية والعسكرية (القوة الصلبة)، تستقر صورة قوية عن قدرة النهضة على الكمون والعودة. وقد عاد حزب النهضة بين شهرَي يناير/كانون الثاني ويونيو/حزيران 2011، ليؤسس نفسه في كل قرية ومدينة، كأنه استفاق من غفوة قصيرة مريحة، وليس من ربع قرن من التشريد والمنفى بقوة “بن علي” وأجهزته. وهذه الصورة تثير رعبًا في القوة الصلبة خاصة، لأن احتمالات العودة تعني توقف القمع السهل وربما انتهاء القمع إلى الأبد، أي انتهاء سبب من أسباب وجود هذه القوة.

هل يوجد مَخرج سياسي لتونس دون المرور بصندوق انتخابي؟ وكيف يمكن تسويقه للداخل وللخارج خاصة؟ فالخارج معنيّ بتوفير غلاف قانوني وسياسي للإسناد.

تونس المعارضة لقيس من داخل منظومته ومن خارجها غارقة في هذه الحفرة، فمن لها بحل سياسي مقبول لكن دون إسلاميين؟ (نسخ أخرى من الوضع التونسي موجودة في مصر وليبيا، وقد حلت في الجزائر بالعم تبون).

ماذا نفعل بالإسلاميين؟ نفيهم وتشريدهم لم يقض عليهم، بل عاد بهم أقوى، وربما يعود بهم نفي آخر أذكى وأحدّ. (وهناك سؤال لم يُطرح: لماذا هم دائمًا الأقوى والنخب الديمقراطية التي لا تطيقهم ظلت ضعيفة ومشتتة ولا تبني تنظيمات قوية تنافسهم؟).

لنختصر، خربت العملية السياسية الديمقراطية في تونس نتيجة هذا العمل الاستئصالي الغبي، فحكم الغباء واستبد. الحديث عن مخارج سياسية لحكم الغباء لن يحقق أي تقدم، ما دام يتحايل على الصندوق الانتخابي وعلى نتائجه. جرثوم تخريب الديمقراطية لا يزال يعشش في عقول النخبة التونسية. لنختصر أكثر، الغباء سيحكم تونس دومًا.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان