البلشي وسلامة.. معركة الصحافة و”اللا صحافة”

ليست المنافسة على مقعد نقيب الصحفيين المصريين، في انتخابات النقابة المقرر عقدها صباح الجمعة، مجرد معركة بين مرشحَّين، يروم كلاهما الظفر بمنصب “رئيس جمهورية الصحافة” -إن صحّ التعبير- لكنها منافسة بين تيارين فكريين، يتعارضانِ تعارضًا يكاد يبلغ حد الخصومة، وهي خصومة تنحدر من أعلى إلى أسفل، فتضرب الوسط الصحفي في قاعدته أيضًا.
النقيب الحالي خالد البلشي، يمثل تيارًا من الصحفيين العصاميين، أسس تجربته المهنية من عرقه ودمائه، فدشن الصحيفة والموقع، وأحرز نجاحات مهنية معتبرة، وكسب ماديًّا من تجارب وخسر من تجارب أخرى.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsحين يصبح الترفيه دعوة.. والدعوة ترفيها
الشريعة وميراث حفيدات الدجوي
قرار تسوية أراضي الضفة.. إذن رسمي للاستيلاء
لكونه يساريًّا بحق، أو قُل على يسار السلطة، وهذا أصل الأشياء، وما يُفترض أن يكونه الصحفي، لم يكن للبلشي أن يجد سبيلًا إلى صحف الدولة، وأغلب الظن أنه لم يسعَ في الأصل إلى ذلك، فمثله لا يملك المؤهلات التي تفتح الأبواب الموصدة.
هو على اليسار من أي نظام سياسي، بعيدًا عن الشخصنة، يجادل بالكلمة سلاحًا، وليس السب والقذف، ولا إلقاء الاتهامات الجزافية، بل المعلومة المدققة بعناية، وليست كل معلومة صحيحة تُرضي قاطني القصور المنيفة، ومن ثم ما من مفاجأة في تصنيفه “ثورجيًّا”، من قبل خصومه، مع ملاحظة أن “ثورجيًّا” تعني هنا أنه “تخريبي”.
الصراع بين الصحفي والمخبر
كلُّ ما في الأمر أن “الجورنالجي خالد البلشي”، بما يؤمن به من استقلالية المهنة، وهي حق لا يجوز التنازع حوله، إلا إذا كان ذلك بين صحفي ومخبر، قد مارس الصحافة ملتزمًا موقفه “الأيديولوجي” منها، الأمر الذي يعتبره خصومه “مساسًا بالثوابت”، وثوابتهم أن الصحافة ليست صاحبة جلالة، بل هي “جارية في بلاط السلطان”.
على الضفة الأخرى، يقف عبد المحسن سلامة، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام العريقة سابقًا، ونقيب الصحفيين الأسبق، وعضو الحزب الوطني “المنحل”، وذلك فضلًا عن مناصب أخرى لا تُعد ولا تُحصى، فيطرح نفسه مفتخرًا بكونه الرجل المقرَّب إلى دوائر السلطة.
هنا مرشح من “حرافيش الصحافة”، المتمردين على محاولات الترويض، وهنالك رجل من “المرضيّ عنهم”، لم يُضبط مرةً ولو بحرف في مقال، متلبسًا بتوجيه أي نقد ذي جدية وجدوى إلى السلطات.
هكذا يأتي كلّ من المرشحين من مرجعية أو قل “فلسفة مهنية” معارضة لمرجعية الآخر إزاء أصول العمل الصحفي، وهو الأمر الذي يتحكم بالضرورة في نظرتهما إلى ما هو مطروح من قضايا ساخنة تُعدُّ بغير مبالغة، مخاطر حقيقية على مستقبل صاحبة الجلالة في مصر.
مع البلشي والذين معه، يصطف تيار من الصحفيين، لهم على الأغلب تجربة مهنية شاقة، نحتوا بأظافرهم في الصخر بعيدًا عن صحافة الدولة، التي قلَّما تسمح بتسرب ذي رأي معارض إلى أروقة صالات تحريرها، وفي خندق سلامة يتمترس “برجوازيو الصحافة”؛ مقدمو برامج “التوك شو”، ورؤساء التحرير، من المقربين المقربين، ممن لهم جنَّات وعيون، وفاكهة مما يشتهون!
تبدو المعركة الانتخابية في ظلال هذا المشهد، أشبه ما تكون بواحدة من متواليات الصراع الماركسية، بين الطبقات الكادحة بما تحمله من أحلام رومانسية، وبين طبقة الرأسماليين الذين يطمعون دائمًا وأبدًا، في تكديس البنكنوت في خزائنهم.
ملاحظة تتسق كثيرًا مع التهمة التي يلقيها خصوم البلشي عليه، وكأنها جريمة مخلة بالشرف: “أنت يساري”، وهو يرد عليهم في كل مرة متسقًا مع حقيقته: “نعم أنا يساري.. ولن أتخلى عن ذلك، لكن اتجاهاتي الفكرية لا علاقة لها بعملي النقابي”.
خطابان انتخابيان شديدا التعارض
ومع اتساع مساحة المتناقضات، تنسحب الأمور على الخطاب الانتخابي، فالبلشي ينادي بجمعية عمومية قوية، تحكمها إرادة الصحفيين، ولا تعمل إلا من أجلهم؛ جمعية عمومية لا تسيطر عليها الأهواء، ولا تهتز ثوابتها بتغير شخص النقيب؛ جمعية عمومية لا يرتهن قرارها إلا بضمائر أعضائها، في حين يتشدق سلامة بخطاب عن النقيب القوي، الذي سيضمن للصحفيين المزيد من المكاسب المادية، من دون أدنى التفاتة إلى مسألة حرية التعبير، وإن حدث أن طرح صحفي في وجهه سؤالًا، أدلى بكلام يتغزل بحلاوة الحرية، وعظمة الحرية، وأهمية الحرية في عجالة مقتضبة، ليعود إلى “حديث الفلوس”، فيكرر للمرة الألف تصريحاته بقدرته الخارقة على انتزاع مكتسبات مادية يصفها دائمًا بعبارة “حزمة غير مسبوقة”.
البلشي يرفع صوته بضرورة تأسيس ممارسة ديمقراطية يستحقها أصحاب القلم، بين جدران “قلعة الحريات”، وسلامة يؤسس لفكرة “أنا القوي.. وأنا وحدي”، وربما بغير افتئات “أنا الدكتاتور”.
ومن الخطاب الانتخابي إلى “السلوك الانتخابي”، تتبدى الخلافات أعمق وأخطر، ففي حين لا يتردد البلشي عن الإجابة عن استفسارات الصحفيين، ولا يستنكف عن دفع الاتهامات التي تُهال على رأسه، بمنتهى القسوة والفظاظة، إلى درجة بث حلقات قصيرة على مواقع التواصل، تحت عنوان “أنت متهم”، يجيب عبرها على التساؤلات، ويميط اللثام عن الملابسات.. في هذا الحين يمارس سلامة سياسة “خليهم يتسلوا”، وهذا ليس غريبًا كما يبدو بالنسبة لعضو سابق بالحزب الوطني “المنحل”.
إن الانتخابات بما يثار من غبار في ساحاتها، هي أكثر المراحل التي يسعى فيها المتنافسون إلى الظهور أمام الناخبين، لعرض برامجهم وتلقي الاستفسارات منهم، والأهم من ذلك نفي الاتهامات التي يوجهها إليهم الخصوم.
غير أن سلامة لا يعير ذلك اهتمامًا، حتى إنه رفض دعوة إلى مناظرة مع البلشي، حتى يتقارعا أمام “الرأي الصحفي العام” بالحجج والبراهين.
المفارقة تسوّغ لا شعوريًّا طرح السؤال عن مدى إيمان سلامة بالديمقراطية، وهي من المآخذ التي يصمه بها معارضوه، ممن يسردون روايات وشهادات من واقع اتصالهم المباشر به، خلال تجربته النقابية السابقة.
من تلك الشهادات شهادة الكاتب الصحفي، ورئيس تحرير موقع مصر العربية “قبل غلقه”؛ عادل صبري، بشأن ما فعله سلامة صديقه وزميل دراسته الذي تربطه به فوق ذلك علاقات أسرية، و”النقيب الأسبق” الذي كان آزره في الانتخابات السابقة، فلم يحرك ساكنًا حين ألقي القبض عليه، وحين سدد خلف القضبان أكثر من ثلاثين شهرًا من حياته.
ويدفع صاحب الشهادة بأن سلامة لم يهتم بمحنته قانونيًّا، كما ينبغي أن يفعل النقيب، هذا على المستوى الرسمي، والأكثر من ذلك على المستوى الإنساني، لم يكلف خاطره مرةً، بالاتصال بذوي الرجل الحبيس للاطمئنان عليهم، ولو على سبيل المجاملة.
حتى إزاء هذه الشهادة التي تحمل بغير مبالغة اتهامات مدوية لم يتكلم سلامة، وهو أمر غريب للغاية، من نقيب لمهنة لا سبيل لإقالتها من عثراتها إلا بالعمل على تعزيز ثقافة الشفافية وتداول المعلومات.
بهذا المعنى تبدو المعركة ليست بين شخصين فحسب، بل هي بالتوازي مع ذلك معركة بين الصحافة و”اللا صحافة”.