الحريديم.. وجع في قلب الكيان

اعتداء الشرطة الإسرائيلية على الحريديم لتنظيمهم مظاهرة ترفض إخضاعهم للتجنيد في جيش الاحتلال (الأناضول)

فرضت سلطات الكيان خدمات إضافية للمجندين النظاميين في الجيش بسبب النقص الحاد في أعداد المجندين، وذلك على خلفية استمرار تداعيات الأزمة العاصفة بشأن مسألة تجنيد الحريديم، وهي الأزمة التي كشفت أن الحرب الصهيونية على غزة خلَّفت معها صراعًا داخليًّا قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تفكك الكيان.

لقد فتحت الأزمة الأبواب لبروز حقيقتين، إحداهما أن سكان الكيان ليسوا على قلب رجل واحد، وأنه تسود بينهم الكثير من التناقضات الفكرية والعقدية، والأخرى بشأن الاستخدام السياسي للجماعات المتدينة في المجتمع الإسرائيلي.

ويشكّل الحريديم نحو 14% من سكان الكيان، وهم لا يمثلون جنسًا أو قومية معيَّنة مثل السفارديم والأشكناز، ويمكنك تسميتهم “السلفية اليهودية”، ولكن بشكل أكثر انغلاقًا، حتى أنهم يعيشون في مجتمعات مغلقة، تنتقب بينهم النساء بشكل أكثر صرامة من نظرائهم في الدين الإسلامي، ويسمّونهن في المجتمع الصهيوني “أمهات طالبان إسرائيل”، ويرفض الحريديم الحداثة واستخدام وسائل التواصل الحديثة بشكل صارم أيضًا.

خطورة الحريديم

وخطورة ملف الحريديم، الذي هو مصطلح يعني بالعبرية “الأنقياء”، أنهم أساسًا لا يؤمنون بالصهيونية التي تقوم عليها فكرة الكيان، بل إنهم لا يتحدثون فيما بينهم اللغة العبرية وهي اللغة الرسمية للدولة، ولكن لهم لغتهم الخاصة التي تُسمى اليديشية، وهي مزيج مكوَّن معظمه من الألمانية مع قليل من الآرامية والإيطالية والفرنسية والأقل من العبرية، والأمر الأهم أنهم ينحدرون في معظمهم من الأشكناز أو الأوروبيين، وهو ما يعني عدم قدرة السلطة الصهيونية للدولة على تجاهل مظالمهم، كما تفعل مع اليهود السفارديم ذوي الأعراق العربية والجنوبية.

فضلًا عن أن الحريديم يمثلون أساسًا قوة ضغط كبيرة على الحكومة الإسرائيلية، لأنهم ممثلون في حزبين رئيسيين؛ حزب “شاس” ويمثل الحريديم الشرقيين، وحزب “يهوديت هتوراه” لليهود الغربيين، والحزبان ممثلان في الائتلاف الحكومي الحاكم بقيادة نتنياهو بـ18 مقعدًا من أصل 64 مقعدًا من إجمالي 120 مقعدًا يشكلون الكنيست (البرلمان)، وهو ما يعني أن انسحابهم سيؤدي مباشرة إلى إسقاط الحكومة.

والأكثر خطورة في ملف الحريديم رفضهم التجنيد في الجيش بوصفه جيشًا ملحدًا ومنحرفًا عن اليهودية الحقة، وأن وجوده لا يخدم شريعة موسى، ودخول أبنائهم الجيش يعني تعرُّضهم لمحو عقيدتهم اليهودية وانحرافهم لخدمة العلمانية، ومِن ثَم محو “السلفية اليهودية”.

ولعل ملف الحريديم يمثل طرفًا قويًّا من حقيقة التناقضات الفكرية والعقدية بين سكان الكيان من جملة تناقضات أخرى تكاد تعصف به، مثل حركتَي “ناطوري كارتا” و”صوت يهودي للسلام”، وجمعية “زوخروت”، وهي كلها حركات لا تؤمن أساسًا بالصهيونية ولا بإسرائيل ذاتها.

دولة دينية

لم تكن إسرائيل دولة دينية فقط عبر القوانين التي صدرت عن الكنيست في السنوات العشر الأخيرة بوصفها كيانًا وطنيًّا لليهود، لكنها دولة دينية منذ الساعات الأولى لتأسيسها بالنار والدم على أرض فلسطين التاريخية.

وتمثل نشأة الحريديم في هذا الكيان دليلًا قاطعًا على أنها دولة دينية لا علمانية كما كان يروّج الإعلام الغربي عنها، ففي بدايات نشأة إسرائيل عام 1948 فرضت العصابات العسكرية التجنيد الإجباري على اليهود، لكنها استثنت من أولئك نحو 400 أو 500 شابًّا ليتفرغوا لدراسة التوراة في المعاهد الدينية بسبب فقدهم لأغلبية الكوادر الدينية في الحرب العالمية الثانية، وخاصة ما ينسبونه إلى “الهولوكوست”.

أولئك الشبان كانوا النواة الأولى لطائفة الحريديم المنغلقة، وصاروا يمثلون نحو مليون و250 ألف شخص الآن، وهم المصدر الرئيسي للمعلومات الدينية عند اليهود في إسرائيل.

وظل الكثير من ساسة إسرائيل يَعُدونهم الطاقة الروحية الهائلة التي تساند وجود إسرائيل بما يؤدونه من أدعية وطقوس روحية يمكن اعتبارها دربًا من دروب السحر، وتجذرت هذه الرؤية لدى أبناء الحريديم حتى صاروا يعتقدون أن طقوسهم وأدعيتهم سبب بقاء الدولة، ولا تقل أهمية في بث الرعب في قلوب أعدائهم عن الطائرات والصواريخ والقنابل، لذا فهم جنود، ولكن بطريقة أخرى أكثر أهمية.

ولعل احتفاء الدولة الصهيونية بهم طيلة 75 عامًا هو دليل على الاستخدام الديني والروحي للحريديم في السياسة، بل والنشاط العسكري، وإن شئت فقل السحر.

تململ اجتماعي

بالطبع كان وجود آلاف من شباب الحريديم خارج التجنيد بينما غيرهم يموتون في العدوان على غزة ولبنان سيثير الكثير من التململ في المجتمع الصهيوني، خاصة أنهم يحصلون على رواتب كبيرة دون عمل، وكذلك يحصلون على امتيازات وتخفيضات خاصة في السلع والخدمات والمرافق والضرائب.

التململ بلغ ذروته حينما طالب وزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتجنيد الحريديم في الحرب على غزة، لكن نتنياهو هاجمه حتى قدَّم استقالته، ولحق به رئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي بعد تصريحات مشابهة، ثم تلتهما تصريحات زعيم المعارضة يائير لابيد بضرورة تجنيدهم أو حرمانهم من امتيازاتهم.

وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير في قرار المحكمة العليا بوجوب تجنيد الحريديم في الجيش، وتوقيع سابق لوزير الدفاع بتجنيد 7 آلاف منهم، وهنا بدأت اعتراضات الحريديم في مظاهرات يومية لا تنقطع.

هنا بدأت حكومة إسرائيل -عبر الكنيست- بشن حرب على السلطة القضائية، ومنحت نفسها الحق في تعيين القضاة بما يسمّونه قانون السلطة القضائية، فتفجرت مظاهرات أخرى تندد بهذا القانون.

الشارع الإسرائيلي يتفسخ بين مظاهرات الحريديم، ومظاهرات ضد قانون السلطة القضائية، ومظاهرات عائلات الأسرى لدى المقاومة وقتلى الحرب ومصابيها.

الحريديم وجع في قلب الكيان المؤقت.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان