في وجه المارد الجائع.. هل يستيقظ العرب؟

في غزة، أو في أي بقعة من فلسطين، لم يعد متاحًا لك أن تدّعي رغبتك بالسلام أو التعايش، فحتى لو رفعت رايته، فلن يشفع لك ذلك. أن تكون فلسطينيًا اليوم يعني أن تُحشر بين خيارين لا ثالث لهما: الرحيل أو الفناء. لم يعد مسموحًا لك أن تعيش، لا مستسلمًا ولا مقاومًا، فالمطلوب شيء واحد وواضح: إفراغ هذه الأرض من وجودك، وطمس كل رواية تحمل تاريخك.
هذه هي الرسالة التي تكرّسها إسرائيل، مدعومةً بالولايات المتحدة علنًا، فيما لا تزال بعض الدول العربية تقف في المنطقة الرمادية، حتى وإن سمعت صيحات الأطفال والنساء تحت النيران ورأت رؤوس الأطفال المقطعة وأشلاء الأبرياء متناثرة، لا يعنيها، طالما أن المعركة خارج عتباتها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمناجم الملح في سيوة.. كنز أبيض وسط الرمال
الحويني نسيج وحده 3/2 «أبو إسحاق الحويني في ميزان الشيخ كشك»
كشف المستور في “أزمة زيزو”
ففي غضون 48 ساعة فقط، تصاعدت حدّة القصف الإسرائيلي على غزة وسوريا ولبنان، ترافقها سياسة ابتلاع الأراضي بحجة توسيع المناطق العازلة، ناهيك عن قصف اليمن، ذاك المشهد لا يقبل التأويل: هذه ليست معركة شعبٍ بعينه، ولا قضية تأمين حدود، بل معركة وجود، معركة الأمة بكاملها. فلم يعد الانبطاح ملاذًا ولا الهروب خيارًا وقد اقتربت ساعة المواجهة.
المعركة المؤجلة
الكل يدرك أن إسرائيل لم تكن يومًا راغبة في السلام، ولم يكن حل الدولتين سوى سراب تسوّق له لتكسب مزيدًا من الوقت. حتى اتفاقيات التطبيع التي وقّعتها مع بعض الدول لم تكن سوى محطات استراحة في طريقها الطويل نحو الحلم الأشمل: “إسرائيل الكبرى”.
لكن الإدراك وحده لا يغير شيئًا، فالجميع يعلم أن المواجهة قادمة، سواء رضينا بها أم تهربنا منها، وسواء دفنّا رؤوسنا في الرمال أم شربنا الذل صمتًا ووجعًا، إنها معركة مؤجلة، ليست ضد الفلسطينيين وحدهم، بل ضد كل ما هو عربي وإسلامي، معركة يراد بها فرض الهيمنة الكاملة، لا يتعدى فيها دور العرب سوى دور التابع، وتكون إسرائيل وحدها هي المتحكمة بمصير المنطقة بأكملها.
إذن ما الفرق بين نكبة 1948، وما نعيشه الآن، في الحقيقة، لا فرق، فلم تكن نوايا العصابات الصهيونية تحمل أي مساحة للتعايش أو السلام آنذاك، بل كانت الإبادة هي العنوان والدليل على ذلك حاضر في آلاف الفلسطينيين الذين قُتلوا بدمٍ بارد، والذين هُجّروا قسرًا من مدنهم وقراهم، في محاولة لطمس وجودهم بالكامل.
لن أتحدث عن أسباب هزيمة العرب في حرب 1948 ضد قرار تقسيم فلسطين أمام عصابات صهيونية إرهابية لم تكن بقوة إسرائيل حاليًا، ولم تكن تلك العصابات بقوة جنودنا الذين دافعوا ببسالة عن أرض فلسطين، فذاك الزمن يحتاج إلى إعادة نبش التاريخ، ورغم أهمية هذه المراجعة التاريخية، فإن الوقت لم يعد يسمح بالتأمل في تلك التفاصيل، بل إن الأولوية الآن تكمن في دراسة سبل تحقيق الانتصار في المستقبل لا دراسة أسباب الهزيمة.
والأهم أن ندرك أن المعاهدات التي وقعت بعد ذلك لم تتمكن حتى الآن من وقف التغول الصهيوني، فالعصابات التي تحولت لاحقًا إلى كيان يسمّى “دولة”، لم تغير منهجها يومًا، فالقتل بالتقسيط يتساوى مع المجازر ولا يمكن بأي حال أن نسميه “سلام”.
سلام مشروخ
والسؤال الحقيقي هو: متى عاش العرب في سلام؟ وما هو شكل هذا السلام؟ والحقيقة التي يرفض البعض الإقرار بها هي أن الفلسطينيين والعرب، رغم كل اتفاقيات السلام والتطبيع، يعيشون في حالة حرب مستمرة مع هذا الكيان. قد لا تكون بالمفهوم التقليدي للحرب، لكنها لم تنتهِ يومًا، فثمة ترقب دائم بين إسرائيل والدول العربية، وكل كلمة وكل حركة قد تشرخ هذا السلام المزيف وتشعل فتيل الحرب.
تلك المعركة لا يبدو أنها ستنتهي، طالما أن مشروع الهيمنة الصهيونية مستمر، وطالما أن المجتمع الدولي يظل صامتًا أمام سرقة الأوطان، فاحتلال بعض الكيلومترات من لبنان أو سوريا أو غزة، ولن أقول -الضفة أو القدس لإنها محتلة رغم أوسلو- فإنشاء المناطق العازلة ثم التمدد داخلها وفرض سياسة الأمر الواقع ليس أقل خطرًا من ابتلاع الوطن بأكمله.
المارد لم يكن نائمًا
ما زال الكثيرون يرددون بلا وعي أن حماس هي من خدشت المارد وأيقظته من سباته، وكأن السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 لم يكن مجرد لحظة تاريخية في سلسلة طويلة من المعاناة، بل أصبح فجأة مبررًا للقتل والتدمير. ليتنا ندرك أن هذا المارد لم يكن يومًا نائمًا، بل كان يستمر في توسيع أطماعه، يراقب من بعيد بحثًا عن فرصة لتوسيع نطاق سطوته. ومع كل محاولة لتهدئة الوضع، كان يُعد العدة لاستغلال أي حادثة تُعطى له غطاءً شرعيًا ليواصل سياسة التوسع دون حدود.
والأكثر استفزازًا أن يتم اختزال مأساة شعب كامل في لحظة أو حدث، أو أن يتم تجاهل الواقع المرير والمستمر من سياسات التنكيل والتدمير على مدار عقود، تلك السياسات التي لم تتوقف إلا لتبحث عن فرصة جديدة لتبرير جريمة أكبر.
يمكن وصف كيان يرتكب مجازر بحق المسعفين، والصحفيين، والأطفال، والنساء، بأي اسمٍ إلا “دولة” أو “جيش نظامي”. فهذا ليس صراعًا عسكريًا، ولا حتى انتقامًا كما يدّعي البعض، بل هو نهج مدروس لتحقيق هدفين لا ثالث لهما: القتل أو التهجير.
لقد غدت إسرائيل كماردٍ جامح، لا يُشبعها ابتلاع الأرض ولا يُروِيها سفك الدم. وأمام هذا الواقع المفجع، يجب أن نعي أن الاستهداف لم يكن يومًا موجّهًا لفلسطين فحسب، بل كان ولا يزال مشروعًا ممنهجًا يستهدف الجسد العربي بأكمله، في ظل صمت دولي مريب، وتواطؤ يكاد يكون معلنًا.
أما آن الأوان أن يستيقظ العرب؟ أما آن الأوان أن يتوقفوا عن دور المراقب والمندد؟ لقد أصبحت كلمات التنديد والشجب رسائل داخلية نقولها لبعضنا البعض، لا أحد يسمعنا، فالأوطان لا تُحْمى بالخطب، ولا تُستعاد بالمناشدات، أما آن الأوان لنقول لهذا المارد الجائع: “الجواب ما تراه لا ما تسمعه”؟.