ماذا يعني فوز الليبراليين في كندا؟!

فوز الليبراليين في الانتخابات الكندية الأخيرة شكّل مفاجأة سياسية غير متوقعة، خاصة في ظل التوقعات التي كانت تصبّ في مصلحة المحافظين. المؤشرات الأولية كلها –من استطلاعات الرأي، ونتائج الحملات، وحتى المزاج العام للناخبين– كانت تؤكد أن حزب المحافظين يتجه نحو نصر حتمي، مدعومًا بسخط شعبي على أداء الحكومة السابقة، وخاصة على مستوى موضوعات التضخم، وقضايا الهجرة والإسكان، لكن ما حدث في الواقع كشف عن ديناميكية انتخابية معقدة لعبت فيها عوامل عدة دورًا حاسمًا في قلب المعادلة.
نسبة المشاركة في الانتخابات الفيدرالية الكندية لعام 2025، بلغت 68.7%، وهي الأعلى منذ عام 1993، عندما سجلت نسبة المشاركة 69.6%، مما يمثل زيادة ملحوظة مقارنة بالانتخابات السابقة، فاقت التوقعات وكانت عنصرًا جوهريًا في تغيير نتائج الانتخابات. الناخب الكندي، الذي عُرف تقليديًا بالتردد أو اللامبالاة، خرج هذه المرة بكثافة، خصوصًا من فئات الشباب، والأقليات، وسكان المدن الكبرى. هذا التدفق الشعبي غير المتوقع ضخّ دمًا جديدًا في صناديق الاقتراع، وجعل الكفة تميل بشكل ملحوظ لصالح الليبراليين، رافضًا خطاب المحافظين الذي وُصف في بعض الأوساط بالمتشدد أو الرجعي.
مارك كارني: الاقتصادي الذي أنقذ الليبراليين
منذ اليوم الأول لحملته، قدّم مارك كارني نفسه بصفته رجل دولة لا سياسيًا تقليديًا. بخلفيته العميقة في الاقتصاد (رئيس سابق لبنك كندا وبنك إنجلترا)، استطاع أن يكسب ثقة الشارع القلق من التضخم والركود، وقدّم خطة واقعية لتقليص العجز دون المساس بالخدمات الاجتماعية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsحين يصبح الترفيه دعوة.. والدعوة ترفيها
الشريعة وميراث حفيدات الدجوي
قرار تسوية أراضي الضفة.. إذن رسمي للاستيلاء
يمكن القول إن قرار جاستن ترودو بالتنحي عن قيادة الحزب الليبرالي، رغم صعوبته، مثّل لحظة تاريخية فاصلة أعادت ضبط المسار السياسي للحزب، وأعطت دفعة قوية له في وقت كان يعاني فيه من التآكل الشعبي وفقدان البوصلة، ومع هذا القرار الجريء، جاء مارك كارني كوجه جديد، لا يحمل عبء الماضي السياسي، بل جاء محملًا بخبرة اقتصادية عميقة وصورة نظيفة، رسمت ملامح عهد جديد.
مارك كارني: رجل الأفعال في زمن الأزمات
منذ اللحظة الأولى لتقلده زعامة الحزب الليبرالي، لم يكتفِ كارني بالوعود أو الخطابات المنمّقة، بل شرع مباشرة في تنفيذ إصلاحات جذرية، في مقدمتها إلغاء “الضريبة على الكربون للمستهلكين محدودي الدخل”، التي كانت محل جدل واسع لسنوات، وسبّبت احتقانًا شعبيًا في مناطق كثيرة من البلاد، خصوصًا بين الطبقات المتوسطة والفقيرة. هذا القرار وحده أعاد للحزب مصداقيته أمام فئات شعرت بالتهميش خلال عهد ترودو المتأخر، ولاقى ترحيبًا شعبيًا كبيرًا، حتى من بين أولئك الذين صوتوا للمحافظين في الدورات السابقة.
تغيير الخطاب الليبرالي وإعادة تعريف الهوية
لكن كارني لم يتوقف عند الإصلاح الضريبي، بل أطلق أيضًا مراجعة شاملة لسياسات الحزب على مستوى الاقتصاد، الإسكان، والسياسة الخارجية. خطاباته كانت دقيقة، خالية من المبالغات، مبنية على أرقام واستراتيجيات قابلة للتنفيذ، وهو ما منح المواطنين شعورًا بأنهم أمام رجل أفعال لا أقوال. لم يقدّم وعودًا وردية، بل طرح رؤى عملية، ومع ذلك بدا أكثر إقناعًا من خصومه. خاصة مع الخطابات الحاملة لمضامين ومبالغات شعبوية واضحة التي بصمت خطاب خصومه السياسيين خاصة داخل صفوف اليمين المحافظ.
قيادة تقنية بروح شعبية
مارك كارني نجح في المزج بين صرامة الاقتصادي ومصداقية السياسي. استفاد من خلفيته المهنية وخبراته التقنية ليقدّم حلولًا واقعية لأزمات معقدة، لكنه في الوقت نفسه لم يغفل أهمية التواصل مع المواطن الكندي العادي. لقد أعاد للحزب الليبرالي صورة “المنقذ الممكن”، لا “الحالم المستهلك”، في مرحلة كان الناخب يبحث فيها عن الثقة والاستقرار.
في المحصلة، لم يكن فوز الليبراليين هذه المرة صدفة، بل نتيجة تحول جذري في القيادة والرؤية، قادها مارك كارني بثقة وهدوء، ليؤكد أن الحزب الليبرالي ما زال قادرًا على التجدد والانبعاث من الرماد متى توافرت الإرادة والشخصية المناسبة، وكذا الظروف والسياقات الدولية الملائمة التي وفرتها شخصية الرئيس الأمريكي ترامب وتصريحاته العاصفة حول ضم كندا وتهديدها بعقوبات اقتصادية وجمركية أثارت عاصفة من التخوفات.
التحالفات الهادئة بدل التصادم
أظهر كارني قدرة عالية على التواصل مع مختلف القوى السياسية دون صدامات مفتوحة، فعلى عكس ترودو، لم يهاجم خصومه بشكل شخصي، بل تبنّى نبرة تصالحية، خاصة تجاه الكتلة الكيبيكية المدافعة عن نوع من الخصوصية الهوياتية داخل كيان الدولة الكندية الموحدة. هذه السياسة أكسبته احترامًا واسعًا، حتى بين بعض من لم يصوّتوا لصالح مشروعه الانتخابي، ومهّدت لتشكيل محتمل لحكومة أقلية قادرة على العمل دون شلل.
تهديدات ترامب: اختبار زعامة حقيقي
أثناء الحملة الانتخابية، عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ملوّحًا بفرض تعريفات جمركية جديدة على كندا. بينما التزم المحافظون الحذر ومالوا إلى الاسترضاء، ظهر كارني بموقف وطني عقلاني، مدافعًا عن كندا دون عدوانية، ومقدّمًا حلولًا عملية لتعزيز التصنيع المحلي وتقوية الاقتصاد.
هذه المواقف زادت من رصيده الشعبي، خصوصًا في مناطق حدودية، تعتبر تقليديًا محافظة، مثل وندسور وبريتش كولومبيا، التي شهدت تحولًا مفاجئًا لصالح الليبراليين.
خوف الأقليات من المحافظين: تصويت تكتيكي لصالح الليبراليين
لكن العامل الحاسم في انتصار الليبراليين كان توجّه شرائح واسعة من المهاجرين من العرب والمسلمين وغيرهم، إضافة إلى أقليات أخرى للتصويت ضد المحافظين، وليس بالضرورة من أجل الليبراليين، فقد أثار خطاب بيير بولييف، الذي ركز على “القيم الغربية” و”استعادة كندا”، قلق هذه الفئات، لا سيما في ظل:
•مواقف تاريخية معادية للعرب والمسلمين داخل الحزب.
•التهديد بإلغاء تمويل الإعلام العام (CBC).
•الصمت تجاه جرائم الكراهية والإسلاموفوبيا.
•التركيز على الهجرة الاقتصادية على حساب الهجرة الإنسانية.
هذا القلق قاد إلى تصويت تكتيكي لصالح الليبراليين في العديد من الدوائر المفصلية، خاصة في ضواحي تورونتو ومونتريال، مما رجّح كفة مارك كارني بشكل واضح.
على سبيل الختم
فوز الليبراليين في انتخابات 2025 لا يمكن اختزاله في شخصية مارك كارني وحده، بل هو نتيجة تفاعل عميق بين تطلعات الكنديين لقيادة اقتصادية عقلانية، وقلقهم من انغلاق سياسي يميني متصاعد كان يبشر به المحافظون. لقد نجح كارني في تقديم نفسه باعتباره “المنقذ الهادئ”، مستوعبا طبيعة المزاج الكندي المتغيّر، مستفيدا من التخوف الذي أفرزته تصريحات ترامب، ومتجاوزًا إرث ترودو، ومؤسسًا لمرحلة جديدة من الحكم قائمة على التوازن والعمل على تحقيق تطلعات الكنديين في القيام بالإصلاحات المطلوبة في ظل الاستقرار، بعيدا عن أي هزة قد تمس النموذج الكندي وتهدد استمراره.