“البلشي” الذي وحدنا!

خالد البلشي محمولا على الأعناق بعد إعلان فوزه مجددا بموقع نقيب الصحفيين المصريين (منصات التواصل)

 

تخطت فرحة إعادة انتخاب خالد البلشي نقيبا للصحفيين حدود شارع عبد الخالق ثروت ومنطقة وسط القاهرة والمؤسسات الصحفية لتمتد وتصل إلى كل مصري مشارك بالهم الوطني العام، وكأن معركة نقابة الصحفيين الشرسة لم تكن على مقعد نقيب لنقابة مهنية، ولكن معركة كانت بين الأمل والركود، المستقبل وماض يصمم أن يمسك بتلابيب أحلامنا وأيامنا ولا يريد أن يغادرنا بمساوئه وطرق تفكيره وأنماط تعايشه، أما المستقبل فهو لوحدة الصحفيين، وإزالة ما تبقى من إثار نقابة كفنت أربع سنوات، وعودة سلم النقابة تعبيرا عن الوجدان المصري.

النقيب الجامع

لذا لم تكن هذه الفرحة التي لم تستثن أحدا من أصحاب الأمل والحلم على صفحات التواصل الاجتماعي إلا تعبيرا عن مجتمع ما زال لديه الأمل أن يصبح لصوته معنى وقيمة، وأن تصبح لوحدته قوة تقتنص إرادته وتجعله يتنفس بعد سنوات من التهاب الشعب الهوائية، تخطت فرحة المصريين حدود صندوق الصحفيين والصحافة لتحاول التمسك بشعاع فجر قد يولد، فها هم قادرون على التوحد وتناسي اختلافاتهم خلف من وجدوه صادقا مخلصا كفئا لوظيفته وجديرا أن يكون صوتا لهم.

البلشي أعاد للنقابة خلال عامين ماضيين بعد فوزه للمرة الأولى في مارس/آذار 2023 دورها، فتخلصت النقابة من سكونها وظلام مبناها، وكان نقيبا قريبا من الناس، لم يكن نقيبا لشلة أو جماعة، مفاوضا قويا لا يخشى أحدا، استعادت معه نقابة الحريات اسمها، ولم يركن لكونه نقيب الصحفيين ويحاول التملق لنظام أو مؤسسة، كان يعايش مشكلات أصحاب الرأي الذين هم خلف القضبان لم يفرق بينهم حسب تياره أو أيدولوجيته، لم يحسب مخاطر الاقتراب من تيارات غير مرضي عنها كان يدافع عن أعضاء نقابته مهما كلفه ذلك، أعاد للنقابة اشتباكها مع القضايا المصرية والعربية، علا صوت النقابة مع “طوفان الأقصى” ولم يترك حدثا إلا وكان للنقابة بيان وموقف فيها، وأخيرا أعاد لسلم النقابة دوره فكان نبض مصر طوال أسابيع في تضامنها مع أهل غزة.

لم يميز البلشي صحفيا عن آخر، فكان توحد المصريين خلفه في انتخاباته الثانية، هذه الوحدة خلفه كانت جامعة من التيارات المصرية كلها، فصنع أملا جديدا في قدرة المصريين على التوحد حينما يدركون أن “قوتنا في وحدتنا”. تابعت الانتخابات ولم أجد صحفيا إلا وقد نحى انتماءه السياسي وأيدولوجيته ووقف خلف من يراه الأجدر والأكثر كفاءة.

كانت معركة شرسة استخدم فيه منافسه ولجانه الإلكترونية أساليب مسيئة للنقيب، ولم يرد ولم يحاول أن يدافع عن نفسه، وربما كانت تلك الأساليب وشخصية المرشح المنافس عوامل أضافت إليه، وكان ابتعاد البلشي عن الرد بالأسلوب نفسه ومحاولته أن تظل سيرته نظيفة عاملا في جاذبية الانتخابات خارج أسوار النقابة، وصنعت من البلشي أملا للمصريين فصار “النقيب الجامع” لهم بعد شتات طويل.

تعامل خالد مع المصريين كصاحب قضية سواء شخصية مثل قضايا سجناء الرأي، وكانت كلمات بعض الذين خرجوا من السجون مؤثرة في رسم صورة النقيب، والأجمل كانت كلمات ودعم زوجات وأبناء من ما زالوا خلف القضبان، فقد أثبتوا أن ما يظهر من النقيب مثل ما يخفى عن الإعلام أو الإعلان، أما القضايا العامة فصارت النقابة مع البلشي أقرب إلى نبض الناس وأقرب في التعبير عما لا يستطيعون التعبير عنه، وفي عامين مضيا عادت الروح إلى نقابة الصحفيين وفي نجاح النقيب لمدة عامين قادمين أملا لنا في إمكانية التحدي.

هل نستطيع؟

لم تشهد مصر على مدار تسع سنوات على الأقل تلاشي فكرة التيارات السياسية في كل قضاياه حتى عندما جاء الطوفان ووحدنا على دعم المقاومة الباسلة في غزة ما لبثت بعد الأحداث أن أوجدت شقاقا بين الذين حاولوا التغلب على أنفسهم وأطماعهم وتوحدوا، حدث هذا خاصة بعد توقيع اتفاق الهدنة في لبنان، وبعد أحداث سوريا.

بدا أن توحدنا الكبير على دعم المقاومة يخفى الكثير في داخل النفوس والقلوب، وكما يقول المصريون “اللي في القلب في القلب”، وعادوا يتناحرون كما كانوا على مدار 14 عاما ونتائجه واضحة للجميع لا تحتاج رصدا.

جاءت انتخابات نقابة الصحفيين والحشد الكبير من الصحفيين والمفكرين، بل والجماهير العادية لصالح خالد البلشي كونه الأمثل للنقابة والأجدر وليس اليساري أو الإخواني أو الليبرالي لتطرح السؤال مرة أخرى بعد “طوفان الأقصى” ومن قبله بست سنوات معركة تيران وصنافير: هل نستطيع أن نتوحد حول ما يمليه العقل؟

هل نستطيع أن نتجاوز مرارة وفرقة وحسابات 14عاما من الشقاق؟ أم كانت انتخابات الصحفيين لحظة عابرة مثل يناير، و”طوفان الأقصى”، ثم نعود أدراجنا نمسك بتلابيب بعضنا البعض عند أول منعطف حتى ولو كان ماضيا بعيدا مثل ما حدث مع تسريب عبد الناصر، الواقع أنا لا أؤمن بنظرية القطعة قطعة في ظروف الأمة المصرية، والأمة العربية الحالية، فالوطن حاليا لا يحتمل “لنكن أصدقاء في قضايا وخصوم في قضايا أخرى”، كما قال علي الزناتي لفتحي نوفل في فيلم طيور الظلام لوحيد حامد وشريف عرفه، فالواقع يختلف تماما عن ظروف ما قبل 2011، فما حدث بعدها وانتشار الانقسام والكراهية بيننا كبير وأيضا ما آلت إليه الأوضاع أشد مأساويا، لذا لا تجدى هذه النظرية وعندما يقولها أحد الأصدقاء في نقاش سياسي أغلق قلبي وعقلي وكراستي وأمضي.

مصر بحاجة إلى مشروع جامع تقف كلها خلفه كما فعلت مع نقيب جامع، وقيادة رشيدة نحتكم حين تقييمها إلى العقل والكفاءة وليس العاطفة، فعلناها مع نقابة الصحفيين فلماذا لا تفعلونها مع الوطن؟

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان