ألمانيا: الذكاء الاصطناعي في خدمة إسرائيل

تعد ألمانيا من أبرز الدول الغربية الداعمة لجرائم الإبادة الجماعية في غزة، وتسعى بقوة، لتفعيل خوارزمية [ذكاء اصطناعي] لفك رموز معاداة السامية، وهو ما يعدّه مراقبون المحاولة، الأكثر استبدادية، لاستخدام الدراسات المتعلقة بمعاداة السامية لمحو الانتقادات الموجهة لإسرائيل من الفضاء العام.
شرطة الجرائم الفكرية!
في منتصف فبراير/شباط الماضي، كان من المقرر أن تُلقي المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية لحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، فرانشيسكا ألبانيز، محاضرة مع مؤسس “الهندسة المعمارية الجنائية”، إيال وايزمان، في جامعة برلين الحرة.
غير أن الجامعة سرعان ما واجهت ضغوطًا سياسية من السفير الإسرائيلي، رون بروسور، وعمدة برلين المحافظ، كاي فيغنر، اللذين طالبا “بإلغاء الفعالية فورًا وتوجيه رسالة واضحة ضد معاداة السامية”، وبالفعل ألغت الجامعة المحاضرة، معلّلة ذلك بـ”مخاوف أمنية”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالتداعيات الاقتصادية للحرب الإسرائيلية الإيرانية على مصر
قلق أنقرة المزدوج: كيف تهدد حرب طهران–تل أبيب الأمن التركي؟
أروع من انتصار الأيام الستة.. نتنياهو يتقدّم!
وفي النهاية، استضافت صحيفة “يونغه فيلت” اليسارية الندوة، التي أُقيمت في ظل وجود أمني مكثف، لضمان عدم ارتكاب أي جريمة فكرية!
وفي الأيام التي سبقت الحدث وتلته، تجاهلت وسائل الإعلام الألمانية التقليدية الإشارة إلى انتهاك المسؤولين الحكوميين للحريات الأكاديمية، وانصبّ التركيز على عدم استغلال الحدث كمنصة لمعاداة السامية.
هذه الهجمات على الجالية الفلسطينية في الخارج، وداعميها، وممثلي الأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية ليست حكرًا على ألمانيا، وكثيرًا ما تستشهد وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية بمزاعم هيئات مدنية مثل رابطة مكافحة التشهير، وغيرها من منظمات معاداة الإعلام الألماني، وخاصة هيئات البث العامة، فيشير غالبًا إلى “خبراء” معاداة السامية على أنهم باحثون أكاديميون أو مفوضون حكوميون معنيون بمعاداة السامية، ويتم تقديم تقييماتهم، أو بالأحرى اتهاماتهم بمعاداة السامية، باعتبارها حقائق علمية موضوعية، لا يمكن الطعن فيها.
فرية الدم!
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، مقابلة أجرتها صحيفة “تاغيس شبيغل” البرلينية مع عالم اللغويات والباحث في معاداة السامية ماتياس جيه. بيكر، عقب إلغاء محاضرة ألبانيز في الجامعة الحرة.
وفي المقابلة، اتهم بيكر، ألبانيز بمقارنة سياسات إسرائيل في فلسطين بسياسات النظام النازي، وزعم أنها لم تُدن هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول.
واعتبر بيكر، بأن المقررة الأممية ألمحت كذلك، إلى أن إسرائيل ترتكب جريمة “فرية الدم”، بقتلها للأطفال الفلسطينيين.
وفرية طقوس الدم، خرافة معادية للسامية من العصور الوسطى تتهم اليهود بقتل أطفال مسيحيين لاستخدام دمائهم كجزء من طقوسهم الدينية، ويُستخدم هذا الاتهام ضد أي شخص يُشير إلى مقتل عشرات الأطفال الفلسطينيين بسلاح الجيش الإسرائيلي.
ويقود بيكر مشروع فك رموز معاداة السامية، في الجامعة التقنية ببرلين، من عام 2019 إلى عام 2025.
وبمساعدة نموذج حوسبة لغوية ضخم، استهدف المشروع إنشاء “خوارزمية [ذكاء اصطناعي] تتعرف تلقائيًا إلى التصريحات المعادية للسامية في تعليقات الويب، بحيث يمكن إزالة المنشورات المعادية للسامية بكفاءة ودقة أكبر”، من قِبل المنصات الإلكترونية.
التفتيش في النيات!
وفي حديثه لمعهد دراسة معاداة السامية والسياسة العالمية، حدد بيكر الهدف السياسي للمشروع، كما تشير مجلة “جاكوبين” الأمريكية اليسارية:
“ما يهمنا ليس محاربة معاداة السامية التي تُمارسها منصات اليمين المتطرف أو دعاة تفوق العرق الأبيض، بل رصد ما يتضمنه الخطاب السائد في الجامعات، ووسط اليسار، وبين الفنانين، وهو ما يُمثل تحديًا في حد ذاته… لأنه لا توجد عقوبات على معاداة السامية بطرق ضمنية، على عكس العبارات المعادية للسامية التي ينطق بها النازيون الجدد”.
وبينما يزعم المشروع التركيز على “المجتمع السائد”، إلا أنه يُركز في المقام الأول على “حماية إسرائيل من الانتقادات”.
وفي التفاصيل، ومن بين حوالي 103 آلاف تعليق فردي عبر الإنترنت جُمعت وأُتيحت كبيانات وصفية على موقع المشروع الإلكتروني، فإن ثلثيها يتعلق بفلسطين وإسرائيل، بينما يتعلق الثلث الآخر بحوادث معادية للسامية أخرى غطتها وسائل الإعلام.
وأظهرت مجموعة فرعية تضم 21 ألف تعليق جُمعت مباشرة بعد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، وجود ما يقارب 2,400 حادثة معادية للسامية، أي ما نسبته 11.7%، ويُصنف ما يقرب من نصف هذه الحوادث تحت بند “الهجمات على شرعية إسرائيل”.
وتنقسم مجموعة البيانات إلى تسميات لأشكال مختلفة من معاداة السامية المزعومة مثل “التشابه مع النازية”، والفاشية والفصل العنصري أو الاستعمار، ووصف إسرائيل بأنها دولة عنصرية أو إرهابية، واتهامها بالإبادة الجماعية، والإشارة إلى حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، وإنكار حق إسرائيل في الوجود.
دليل معاداة السامية
ونشر المشروع في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي “دليل تحديد معاداة السامية على الإنترنت”، وهو معجم من 500 صفحة، ويُقدّم أمثلة على تعليقات معادية للسامية صريحة وضمنية، متبوعة بتعليقات غير معادية للسامية كنقاط مرجعية محايدة.
وتحت عنوان “تشبيهات النازية/تشبيهات الفاشية”، يُقدّم المشروع مثالا واضحا على عبارة معادية للسامية: “اليهود يفعلون بالفلسطينيين ما فعله هتلر بهم”.
ومن أمثلة معاداة السامية الضمنية: “أنتِ تقفين ضد معاداة السامية والمحرقة، لكنكِ لا تقفين ضد قتل الفلسطينيين الأبرياء. أنتِ امرأة ذات معايير مزدوجة وعار!”.
وفقًا للمعجم، يُعد هذا معادٍ للسامية لأنه “يجري إرساء معادلة ضمنية” تساوي بين إسرائيل وألمانيا النازية.
إخفاء القاتل
ووفقا لهذا الفهم، فإن النموذج غير المعادي للسامية، ينبغي أن يكتب في حال التعليق مثلا على قتل الأطفال الفلسطينيين كالتالي: “مات تسعة أطفال في غزة الشهر الماضي نتيجة غارات جوية”.
ووفقًا للمشروع، فإن هذا الخبر ليس معاديًا للسامية لأن “البيان لا يوحي بأي عمل متعمد، ولا يركز على الجهة المسؤولة، بل يركز على الوفيات المأساوية”، و”اختيار الفعل “مات” بدلًا من “قُتل/قُتلت”… يُخفف أيضًا من حدة المشاعر…”.
وفي نهاية المطاف، فإن مشروع فك رموز معاداة السامية ليس استثناء، بل يتماشى بشكل وثيق مع أهداف السياسة الخارجية الألمانية، ويُعنى بحماية سمعة إسرائيل أكثر من محاربة معاداة السامية نفسها.
والأهم من ذلك، أن هذا التخصص سهّل على مدى العقود الأربعة الماضية، بشكل لا مثيل له، تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، بحجة مكافحة معاداة السامية، وبذلك أصبح هذا التخصص جزءًا لا يتجزأ من ثقافة سياسية متواطئة مع الإبادة الجماعية.
المقاومة تصحح المفاهيم.. ولكن
غير أنه بعد خمس سنوات من انطلاق مشروع معاداة السامية عبر الخوارزميات، يبدو أن إطاره المفاهيمي ومعجم مصطلحاته، قد تجاوزهما الواقع، بفعل صمود الشعب الفلسطيني في غزة.
ونشهد اليوم، انتقادات حادة للسياسة الصهيونية مثلما كتبت الكاتبة اليهودية الروسية – الأمريكية في مجلة “نيويوركر” ماشا غيسن، التي اتهمت “إسرائيل بأنها تهدف إلى تصفية غزة مثل الغيتو النازي”، وتحويل غزة إلى “مقبرة للأطفال”.
ومن وجهة نظر غيسن، فإن تعريف ألمانيا الصارم لمعاداة السامية، كان له تأثير في خنق النقاش الصحيح، وخاصة حول إسرائيل، وله آثار في الجدل الدائر حاليا في الولايات المتحدة حول ما يشكل معاداة للسامية.
وهكذا وبينما يُقوّض الصمود الفلسطيني، المصداقية العلمية لمشروع “فك شيفرة معاداة السامية”، إلا أن المشروع قد يكون سلاحًا فتاكًا في يد من يريدون طمس أصوات الفلسطينيين وأنصارهم على الإنترنت، واتخاذ إجراءات قانونية ضدهم.