انتخابات الصحفيين المصريين.. هل هي رسالة غضب؟!

في مشهدٍ يُعيد إحياء الأمل لمستقبل حرية الصحافة، أعلنت نتائج انتخابات نقابة الصحفيين المصرية فوز النقيب المنتهية ولايته خالد البلشي بولاية ثانية نقيبًا للصحفيين، متغلبًا على منافسه عبد المحسن سلامة الذي حظي بدعم مؤسسات الدولة، والقوى السياسية المُساندة لها. هذا الفوز لم يكن مجرد حدث روتيني؛ بل رسالة واضحة من الصحفيين تؤكد للمرة الثانية أن الحرية والكرامة فوق الوعود البراقة.
أطول معركة انتخابية وتجاوزات غير مسبوقة
وقد شهدت الانتخابات سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ النقابة؛ حيث استمرت المعركة الانتخابية أكثر من شهرين، لعدم اكتمال الجمعية العمومية بسبب شهر رمضان، والعيد، وبعد ذلك أعياد المسيحيين، تحولت خلالها الساحة النقابية إلى ميدان تراشق واتهامات شخصية بين أنصار المرشحين، وصلت لحد اتهامات بالفساد، واستغلال النفوذ.
ورغم التجاوزات الخطِرة التي طالت سُمعة المهنة، إلا أن الصحفيين أثبتوا أنهم قادرون على تجاوز الضجيج لصالح اختيارٍ يعكس مصلحتهم العليا.
اقرأ أيضا
list of 4 items“صنع الله إبراهيم” الكتابة على دقات الحروف وصوت المذياع
وداعا محمد حلمي القاعود.. صاحب القلم الهادئ والفكر الصاخب
حتى تكتمل فرحتنا بنجاح البلشي
وبلغت نسبة المشاركة في الانتخابات نحو 60%، وهي الأعلى في تاريخ النقابة؛ ما يؤكد حماس الصحفيين غير المسبوق للدفاع عن استقلاليتها.
وهذا الحضور الكثيف لم يكن مجرد رد فعل على الحملات الدعائية؛ بل تعبيرًا عن رفضٍ واضح لمحاولات تحويل النقابة إلى أداة تابعة، واستعداد الجماعة الصحفية لتحمل المسؤولية في لحظة فارقة.
الأهرام في قلب العاصفة
أضفت الحملة الانتخابية بظلالها على مؤسسة الأهرام التي انقسمت داخليًا بين مؤيدٍ لمرشحها عبد المحسن سلامة، ومعارضٍ له، وهو ما أثار غضبًا واسعًا بين الصحفيين الذين رأوا في تحويل المعركة النقابية إلى “صراع مع الأهرام”، خروجًا عن أخلاقيات المهنة.
بل إن ظهور أحد الإعلاميين البارزين بجوار سلامة في فعالية لمؤسسة الأهرام قبيل الانتخابات عُدَّ محاولة لاستغلال نفوذ المؤسسة؛ ما دفع كثيرين للعزوف عن التصويت له.
اللافت أن الحشد المبالغ فيه لصالح سلامة -بدءًا من الوعود المادية غير الواقعية، مرورًا باستخدام أدوات مؤسسات الدولة- جاء بنتائج عكسية، حيث عزّز شكوك الصحفيين في نوايا المرشح المدعوم سلطويًا، ودفعهم للتصويت لصالح الخصم الأقل إمكاناتٍ، والأكثر مصداقية.
ورغم الحشد الكبير للمؤسسات القومية لصالح سلامة، والذي تضمَّن وعودًا مادية بزيادة البدلات النقدية، وتوفير وحدات سكنية، وأراضٍ زراعية، فضَّل الصحفيون التصويت للبلشي، مؤكدين رفضهم تحويل النقابة إلى أداة تابعة للسلطة.
فبرنامج سلامة الذي وُصف بـ “الأضخم في تاريخ النقابة”، لم يقنع الجماعة الصحفية التي رأت فيه محاولة استغلال الظروف الاقتصادية الصعبة، بينما مثّل فوز البلشي انتصارًا لمسارٍ نقابي استمر عامين في الدفاع عن الحريات، وتحسين الخدمات دون تنازلات.
لماذا فضّل الصحفيون البلشي؟
جاء اختيار البلشي بسبب الأداء المميز خلال ولايته الأولى؛ حيث نجح في تعزيز استقلالية النقابة، ودعم الصحفيين المعتقلين، وفتح ملفات حساسة، مثل اعتقال الزملاء، وتدهور حرية الصحافة.
كما أقام علاقات متوازنة مع الدولة؛ حيث تمكّن من التعاون مع مؤسسات الدولة لتحقيق مكاسب مادية (مثل زيادة بدل التكنولوجيا)، دون أن يُفقِد النقابة استقلاليتها، كما ظهر في دوره البارز خلال أزمة غزة الأخيرة؛ من حيث الوقوف ضد حرب الإبادة، وضد محاولة التهجير، وعادت في عهده مرة أخرى سلالم نقابة الصحفيين تهتف لفلسطين، وضد الكيان الصهيوني.
وقد حافظت العملية الانتخابية على نزاهتها تحت رقابة الصحفيين أنفسهم، ما أكد أن النقابة “عصيّة على التزوير”، عكس ما ردده سلامة في اليوم التالي للانتخابات؛ حيث وصف العملية الانتخابية بأنها شابها التزوير في تسجيل له، ما أغضب كثيرًا من الصحفيين الذين يعلمون استحالة تزوير انتخابات نقابة الصحفيين التي تُجرى لحظة بلحظة تحت أعينهم، ولا مجال لأي تزوير، أو تلاعب فيها.
الدولة تخطئ حساباتها
وكشفت النتائج عن فجوة بين أجهزة الدولة والجماعة الصحفية، خاصة بعد فشل محاولات استمالة الصحفيين عبر الوعود المادية للمرة الثانية على التوالي، وهنا يبرز سؤال جوهري: لماذا تفشل الدولة في “ترويض” النقابة رغم إمكاناتها الهائلة؟ الإجابة تكمن في إصرار الصحفيين على أن تكون النقابة بيتا لكل الأصوات، ودرعًا لحماية المهنة من الاستغلال السياسي.
ورغم التحديات، يحمل فوز البلشي رسائل إيجابية؛ حيث أثبتت الانتخابات أن المؤسسات النقابية قادرة على إدارة حوار ديمقراطي بعيدًا عن الهيمنة الأمنية، كما أكد قدرة نقابة الصحفيين على التحرك خارج سرب الدبلوماسية والتضييق الأمني في القضية الفلسطينية؛ حيث قادت النقابة تحركاتٍ لدعم غزة، ورفض التطبيع مع الكيان الصهيوني.
ويُظهر فوز البلشي أن الإرادة الجماعية قادرة على كسر الاحتكار السياسي، حتى في أصعب الظروف، ويجب على الدولة احترام استقلالية النقابة، وتحسين أوضاع الصحفيين المعيشية دون ضغوط أو شروط، فقد ثبت للمرة الثانية على التوالي قدرة الصحفيين على التغيير، وعدم قابليتهم للخضوع لأي إغراءات، خاصة شباب الصحفيين.
وهذا الفوز المستحقّ للبلشي يتطلب تعاونًا من عبد المحسن سلامة للوفاء بوعوده الانتخابية لخدمة زملائه كعضو في الجمعية العمومية، وليس كمنافس مهزوم، وحسَنًا فعل في بيانه الأخير الذي شكر فيه أعضاء الجمعية العمومية، وتمنّى للبلشي التوفيق والنجاح في مهمته بعد التسجيل الذي أغضب الجمعية العمومية صبيحة الانتخابات بعدما قال فيه “إن الانتخابات شابها التزوير”.
ويتطلب الفوز الجديد تعاونًا من جميع الأطراف، وعلى النقيب خالد البلشي مواصلة بناء الجسور مع مؤسسات الدولة، مع الحفاظ على المكاسب النقابية.
“عاش وعي الصحفيين”.. و”عاشت وحدة الصحفيين”.. هذا ما ردده أعضاء الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، فالفوز ليس نهاية الطريق، بل تأكيد أن المعركة من أجل الحرية والمهنية تستحق العناء.
والرسالة الأهم حين تختار الجماعة الصحفية كرامتها، فإنها تعيد للأمل بقية، “وما زال في الحلم بقية” وهي الجملة، الشعار الانتخابي لخالد البلشي في حملته الانتخابية.