دماء في مسجد خديجة بفرنسا.. متى يواجه الغرب الإسلاموفوبيا؟

جنازة ضحية الإسلاموفوبيا في فرنسا (الفرنسية)

لم تكن جريمة القتل البشعة في مسجد خديجة ببلدة “لاغراند كومب” الفرنسية الأولى من نوعها بحق المسلمين، سواء في فرنسا أو في الغرب عمومًا، ولن تكون الأخيرة. فنتيجة خطاب مسموم مشبع بالعنصرية والكراهية، أو ما يعرف بـــظاهرة “الإسلاموفوبيا”، بات المسلمون في الغرب أكثر عرضة للعنف وجرائم الكراهية والعنصرية، التي تمس أرواحهم وممتلكاتهم ومساجدهم.

ومع توسع رقعة “الإسلاموفوبيا” على أرض الواقع، أصبحت خطرًا كبيرًا يهدد تماسك المجتمعات الغربية، التي يُعد المسلمون اليوم جزءًا أصيلًا من نسيجها، وبات هذا يفرض أسئلة عديدة حول موقف الأنظمة الغربية من العنف تجاه المسلمين: إلى متى يتواصل صمتها؟ وإلى متى يستمر التجاهل العمدي للحقيقة؟ ومتى يواجه الغرب الإسلاموفوبيا بحزم؟

جريمة بدوافع دينية

في صبيحة يوم الخامس والعشرين من إبريل/نيسان 2025، شهدت بلدة “لاغراند كومب” الهادئة في الجنوب الفرنسي جريمة قتل مروعة؛ إذ أقدم مواطن فرنسي مسيحي، يُدعى “أوليفييه (21 عامًا)، على دخول مسجد البلدة، وقتل الشاب المسلم “أبو بكر سيسي” (22 عامًا) من أصل مالي، بينما كان يصلي منفردًا. باغته الجاني وهو ساجد، ووجه له أكثر من خمسين طعنة قاتلة باستخدام سكين كبير، ولم يكتف بذلك، بل قام بتصوير الضحية، مكررًا مرتين: “أنا الذي فعلتها”، مع ترديده عبارات مسيئة للذات الإلهية.

لا يمكن النظر إلى هذه الجريمة باعتبارها عملًا فرديًا معزولًا، بل هي ذات دلالات شديدة الخطورة، وتُعد مثالًا مؤلمًا ومؤشرًا خطيرًا على تصاعد الكراهية ضد المسلمين، والتي تغذيها خطابات سياسية شديدة التطرف، وإعلام متحيز، وتراخٍ رسمي واضح في مواجهة أسباب هذا العنف ومعالجته.

هذه الحادثة تلفت الأنظار، وتطرح تساؤلات عن واقع المسلمين ليس في فرنسا فحسب، بل في الغرب عمومًا، وعن كيفية فهمها وأمثالها في سياق استمرار تصاعد العنف ضد المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية

من مجزرة المسجدين إلى جريمة مسجد خديجة

رغم الفارق الكبير في عدد الضحايا، تعيد جريمة قتل “أبوبكر سيسي” في مسجد خديجة بفرنسا إلى الأذهان حادثة مجزرة المسجدين بنيوزيلندا، في 15 مارس/آذار عام 2019، والتي ارتكبها الإرهابي السفاح “برايتون تارانت”، الأسترالي الجنسية، حيث قتل بدم بارد 51 مسلمًا أثناء تأدية صلاة الجمعة، في بلدة كرايست تشرتش، وبث جريمته النكراء مباشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ليشاهد العالم تفاصيلها وقت حدوثها. في كلتا الجريمتين الوحشيتين، كان العامل المشترك هو الإسلاموفوبيا؛ هذه الظاهرة التي تفشت في المجتمعات الغربية، والتي باتت تبرر القتل والاعتداء على المسلمين.

منذ حادثة نيوزيلندا وحتى جريمة فرنسا الأخيرة، تصاعدت وتيرة الجرائم العنصرية ضد المسلمين في الغرب، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية.

جذور الإسلاموفوبيا في الغرب

هناك جذور تاريخية وثقافية عميقة لنشأة الإسلاموفوبيا في الغرب، تمتد إلى قرون، منذ الحروب الصليبية، كرست صورة نمطية عن المسلم، العدو المتوحش، وترسخت مع مرور الوقت في الفنون، والأدب، والتعليم. ومع الحقبة الاستعمارية، تعمق التعامل العنصري، حيث تعامل الأوربيون مع المجتمعات الإسلامية باعتبارها دونية.

في العصر الحديث، تعززت الصورة السلبية عن المسلمين، وقام الإعلام الغربي بتغذيتها بشكل كبير، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، وبدأ يربط الإسلام بالتطرف بشكل مباشر. ومع صعود اليمين السياسي المتطرف في أوروبا وأمريكا، وخاصة في فرنسا والنمسا، أصبحت الإسلاموفوبيا جزءًا أساسيًا من الخطاب السياسي والإعلامي؛ تُستخدم ضمن خطاب شعبوي كورقة انتخابية، تعتمد على تضخيم النظرة السلبية للمسلمين، وتُقدمهم على أنهم دخلاء، ويمثلون عبئًا ثقافيًا، واعتبار المساجد بؤرًا للتطرف.

ازدواجية المعايير الغربية

تشكل جريمة مقتل “أبوبكر سيسي” مرآة تعكس الواقع الذي يعيشه ملايين المسلمين في دول تدعى التعددية والتنوع الثقافي، واحترام الحقوق، في الوقت الذي تدفن فيه الأنظمة الغربية رؤوسها في الرمال، وتغض الطرف، أو تتواطأ بصمتها، حين يكون الضحية مسلمًا، في تجلٍ واضح ومفضوح لازدواجية المعايير.

في الغرب عمومًا، يمكن القول إن هناك تحالفًا غير مباشر -وربما غير معلن- بين بعض الأوساط السياسية والإعلامية ضد المسلمين. فرغم الإدانات القولية للجرائم، إلا أن التغطيات الإعلامية تميل في مجملها إلى التهوين من شأن الجرائم عندما تستهدف المسلمين، ولا يتم التطرق للجذور والأسباب الحقيقة، وهو؛ خطاب الكراهية والتحريض الممنهج ضد المسلمين.

وفي المقابل، إذا وقعت جريمة يُشتبه أن الجاني فيها مسلم، فإن الأمر يكون مختلفًا تمامًا؛ إذ تصبح ردود الفعل الرسمية والإعلامية أكثر صرامة وعنفًا، وقد تشمل إجراءات أمنية مشددة بحق المسلمين، وتوسيعًا للمراقبة، إضافة إلى حملات سياسية تدعو إلى فرض قيود على الحريات الدينية، وتحذيرات من الخطر الإرهابي.

هذا التفاوت في التعامل يُرسخ صورة نمطية سلبية للمسلمين، باعتبارهم مصدر تهديد دائم؛ مما يوفر تربة خصبة لتبرير مزيد من جرائم الكراهية بحقهم، ويطيح بمبادئ “المواطنة” و”العدالة”، حيث يُصبح بعض المواطنين في موقع الاشتباه الدائم بهم بسبب الهوية الدينية.

إحصائيات مقلقة

تعكس الاحصائيات المتعلقة بـ” الإسلاموفوبيا” فجوة كبيرة بين القيم التي يدندن بها الغرب عن الحقوق والمساواة، وتزايد الشعور بالإقصاء والتمييز لدى المسلمين.

في فرنسا، بحسب بيانات وزارة الداخلية، سُجلت في عام 2023 نحو 8500 جريمة بدوافع عنصرية أو دينية، بزيادة قدرها 32% مقارنة بالعام السابق له.

في ألمانيا، شهد عام 2024 توثيق أكثر من 1550 حادثة كراهية ضد المسلمين، منها: اعتداءات على النساء المحجبات، وهجمات على مساجد.

أما المملكة المتحدة، فقد سُجلت أكثرُ من 6300 حالة عام 2024، بنسبة ارتفاع 73% في الاعتداءات المتعلقة بالإسلاموفوبيا.

ومن ناحية أخرى، كشفت دراسة لوكالة الحقوق الأساسية التابعة للاتحاد الأوروبي، أن 47% من المسلمين في 13 دولة أوروبية تعرضوا للتمييز خلال السنوات الخمس الماضية، مع زيادة ملحوظة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية استثناءً، فوفقًا لمجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، فقد تلقى ما يقارب 5000 شكوى في النصف الأول من عام 2024، تتعلق بحوادث معادية للمسلمين والفلسطينيين، منها حوادث بشعة، مثل: طعن طفل فلسطيني في إلينوي، وإطلاق نار على طالب فلسطيني في فيرومنت. ورغم فظاعة هذه الحوادث، فقد غاب رد الفعل السياسي والإعلامي المتناسب مع خطورتها.

ماذا بعد جريمة مسجد خديجة؟

إن دماء “أبوبكر سيسي” التي أُهرقت غدرًا على مذبح الإسلاموفوبيا في مسجد خديجة، تُعد ناقوس خطر، وإنذارًا للغرب بأسره، لا لفرنسا وحدها، لوقف نحر الداخل بسكين الكراهية والعنصرية. فهي رسالة دامغة بأن الإسلاموفوبيا ليست خطرًا على المسلمين وحدهم، بل أيضًا على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعدالة، والتعايش، التي يزعم الغرب الدفاع عنها.

إن المجتمعات الغربية تخاطر بتفككها ما لم تسارع إلى مواجهة الإسلاموفوبيا بحزم وصرامة، لأن المواجهة هنا لم تعد خيارًا، بل ضرورة حتمية للحفاظ على السلم الاجتماعي. وهذا يستدعي تحركًا عاجلًا من جميع الأطراف على كافة المستويات، لتحقيق العدالة والمساواة، وحماية حقوق المسلمين، قبل أن تجد المجتمعات الغربية نفسها أمام انقسامات تعصف بتماسكها في طريق لا رجعة فيه.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان