أطماع ترامب في قناة السويس

قناة السويس (غيتي)

وسط المعارك التي يشعلها ترامب ضد دول العالم تواجه مصر تهديدا جديا لا يمكن الاستهانة به؛ ففي تصريح مفاجيء طالب الرئيس الأمريكي بمرور السفن الأمريكية العسكرية والتجارية في قناة السويس مجانا وبدون دفع أي رسوم، وزعم على منصته على “تروث سوشيال” أنه لولا الولايات المتحدة ما كانت القناة موجودة، ودعا إدارته للعمل لتنفيذ قراره، في عدوان صريح على السيادة المصرية وتجاهل تام للقانون الدولي، وعدم احترام للعلاقة بين الدولتين.

قوبل تصريح ترامب بسخرية واسعة في مصر، فهذه القناة حفرها المصريون بأيديهم، ومات فيها عشرات الآلاف في أعمال الحفر بالسخرة، ودفعوا فيها أثمانا غالية منذ افتتاحها عام 1869 وحتى الآن، وأدي تصارع القوى الكبرى عليها إلى خسارة الاستقلال الوطني وإغراق مصر في الديون، ومن أجل الاستحواذ عليها احتل الإنجليز مصر عام 1882، ودفاعا عنها خاض المصريون ثلاث حروب (1956-1967-1973) ومازالوا يواجهون الأطماع التي لم تتوقف، والمؤامرات التي تتخذ صورا شتى حسب طبيعة كل مرحلة.

أطماع ترامب في القناة أبعد من المرور المجاني، ولا يمكن التعامل مع تصريحه باستخفاف؛ فكل مواقفه منذ مجيئه تفضح أفكار اليمين الأمريكي القائمة على السطو على ثروات الآخرين، والاستيلاء على أراضيهم وأصولهم ذات القيمة العالية، فكلامه عن قناة السويس جاء بعد تصريحات عن رغبته في امتلاك قناة بنما والسيطرة على الممرات المائية، وضم كندا، والتهديد بالسيطرة على جرينلاند ولو بالقوة، والإعلان عن رغبته في امتلاك قطاع غزة وطرد الفلسطينيين منه لتحويله إلى منطقة سياحية، ومطالبته دول خليجية بدفع تريليونات الدولارات والمجاهرة برغبته في الاستحواذ على صناديقها السيادية.

فكرة القناة منذ نشوء الحضارة قبل ظهور أمريكا

ظهر مشروع ربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر منذ الأزمان الغابرة، قبل ولادة أمريكا، فالفراعنة أول من شيد الممرالملاحي، ولكن بما يضمن عدم استغلاله من القوى الخارجية، فلم يقوموا بالربط المباشر كما فعل ديليسبس والفرنسيون، وإنما من خلال النيل وقناة وسيطة، وكان الفرعون المصري سنوسرت الثالث الذي يطلق عليه الإغريق سيزوستريس من الأسرة الثانية عشرة (1878- 1839 ق.م) أول من نفذ الربط غير المباشر، حيث تدخل السفن من المتوسط إلى النيل بالقرب من الزقازيق، ثم تتجه في القناة العذبة التي حفرها وسميت باسمه، حتى البحيرات المرة ثم البحر الأحمر.

تم تسجيل افتتاح القناة في لوحة منحوتة على واجهة معبد الكرنك، وأشارت البرديات إلى قيام الفرعون سيتي الأول ابن رمسيس الأول في 1310 ق.م بإعادة حفر القناة، وظلت تعمل حتى احتلال الفرس لمصر، حيث قام الملك الفارسي داريوس في 510 ق.م بزيادة عمقها وتوسيعها وإدخال بعض التحسينات عليها، وعندما جاء الإسكندر المقدوني في 332 ق.م اهتم بالقناة لنقل جنوده من الإسكندرية وأبي قير إلى البحر الأحمر عن طريق الدلتا والبحيرات المرة.

ظلت القناة تخدم الدولة المصرية في عصور البطالمة والرومان، ولكن تم إهمالها في عهد البيزنطيين وتركوها حتى رُدمت، إلى أن جاء الفتح الإسلامي وعاد الاهتمام بها من جديد.

القناة في العصر الإسلامي

عندما فتح عمرو بن العاص مصر فكر في تنفيذ فكرة وصل البحرين الأبيض والأحمر مباشرة، لكن الخليفة عمر بن الخطاب رفض الفكرة حتى لا تكون طريقا للغزو الخارجي ووصول جيوش الروم إلى مكة والمدينة، وطلب الخليفة إعادة حفر القناة القديمة في 642 م مع تعديل مسارها ليبدأ من الفسطاط بالقاهرة إلى البحيرات المرة ثم السويس (القلزم) لنقل الحبوب والحجاج إلى الحرمين، وأطلق على القناة اسم “قناة أمير المؤمنين”.

وظلت القناة تعمل حتى قرر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في القرن الثامن ردمها لمنع نقل المؤن إلى المدينة التي تمردت على الدولة العباسية، وعندما فكر هارون الرشيد شق القناة بين البحرين مباشرة قال له وزيره يحيى بن خالد:” إذًا يخطف الروم الناس من المسجد الحرام والطواف، وذلك أن مراكبهم تنتهي من البحر القلزم إلى بحر الحجاز فتطرح سراياها مما يلي جدة فيخطف الناس من مكة والمدينة” فامتنع عن ذلك.

النظرة الاستراتيجية قديما وحديثا

كان التفكير الاستراتيجي منذ أيام الفراعنة يرفض شق القناة بين البحرين، لأنها ستجلب أطماع الدول الكبري وتغريها لاحتلال مصر، والسيطرة على الممر المائي الذي يربط الشرق بالغرب، ورغم قوة الفراعنة في زمنهم وعدم وجود دول تهددهم فإنهم لم يفكروا في ربط البحرين بقناة مباشرة وفضلوا شق القناة الوسيطة من النيل رغم طول المسافة وارتباطها بالفيضان وتكلفتها العالية.

تشير البرديات القديمة إلى أن الملك نخاو بن بسماتيك (609: 593 ق.م) عندما فكر في شق قناة للربط بين البحرين دون الدخول على النيل، فإن نبوءة “العرافة ميليت” منعته من استكمال المشروع والاكتفاء بمسار القناة القديمة، ومما جاء في النبوءة ” عملك هذا سيجلب الضرر على مصر، فحفر القناة سيعود بالفائدة على الغريب، وعلى الأجنبي دون الوطني.. وغدا عندما تفتح القناة سيمر بها الجميع.. ستجذب مطامع أعدائك، فتفقد السيطرة على القناة، وتجعل للخطر منفذا إلى قلب بلادك”، فقرر نخاو التراجع.

وقد أشار المؤرخ الإغريقي هيرودوت في تاريخه إلى نبوءة العرافة ميليت، وقال إن عدد المصريين الذين ماتوا في حفر القناة حتى توقف نخاو قد بلغ 120 ألف مصري، أي أن التضحيات كانت ضخمة في كل مرة يتم فيها الحفر، ولم تسجل كتب التاريخ إلا القليل.

النصيحة الذهبية لعمر بن الخطاب

كانت نصيحة عمر بن الخطاب بمنع وصل البحرين لحماية الحجاز وقلب العالم الإسلامي هي التي سار عليها حكام مصر منذ عمرو بن العاص وحتى محمد علي، فالبحر الأحمر ظل بحيرة إسلامية مغلقة لا تدخله السفن الأوروبية، وأصبحت مصر من أغنى دول العالم، حيث تمر من خلالها التجارة الدولية من الصين والهند إلى أوربا والعكس، وكانت الموانيء المصرية مثل الإسكندرية والقصير والسويس وعيذاب (موقعه في حلايب) أهم الموانيء العالمية، وكانت كل من جدة وعدن عامرتان.

كانت مصر في عهد الأيوبيين ثم المماليك من بعدهم أغنى دول العالم في القرون الوسطى، بسبب التحكم في حركة التجارة الدولية، وظل البحر الأحمر ممنوعا دخوله على غير المسلمين ومعه المحيط الهندي، وكانت البضائع تصل الموانيء المصرية وتنقل بالبر إلى مدينة قوص في جنوب مصر، ثم تنقل بالسفن عبر النيل إلى القاهرة والإسكندرية ثم إلى أوربا، وجنى المصريون ثروات طائلة من الرسوم والضرائب.

كان احتكار مصر للتجارة العالمية سببا في قدوم البرتغاليين واكتشاف طريق رأس الرجاء لضرب الهيمنة الإسلامية، والتحكم في الملاحة واحتكار التجارة، فسيطروا على المحيط الهندي ودخلوا البحر الأحمر، وفكروا في احتلال مصر خاصة بعد ضعف المماليك وحرق الأسطول المصري الذي توجه لحربهم في الهند، فتدخل العثمانيون، واحتل سليم الأول الشام ومصر وأغلق البحر الأحمر في وجه الدول الأوروبية التي تدفقت واحتلت الهند والساحل الإفريقي والدول الإسلامية في آسيا، وكانت البداية للحملات الاستعمارية واحتلال العالم الإسلامي.

نصيحة محمد على

مع دخول الحملة الفرنسية (1798 – 1801م) لمصر سعى نابليون لشق القناة، وأسند المهمة لفريق من العلماء الفرنسيين ولكنهم أخطأوا في الحسابات؛ إذ رأوا أن البحر الأحمر أعلى من البحر الأبيض بعشرة أمتار فتأجل المشروع وتعثرت الحملة وتم طرد الفرنسيين، ولكن بعد تولي محمد علي الحكم والإطاحة بخصومة عرض الفرنسيون مشروع القناة بعد تصحيح الخطأ الذي وقعوا فيه، فكان رد محمد علي بالرفض وقال: “لو فتحت القنال لخلقت لمصر بوسفورا كبوسفور الدولة العلية، وكما أن البوسفور سبب في مشاكلها تصبح بلادي المطموع فيها من الأصل بسبب القنال مسرحا للمطامع السيئة”.

لم يحفظ أولاد محمد علي وصية والدهم، فوافق سعيد ومن بعده إسماعيل، واستطاع ديليسبس غوايتهما في اتفاقات لا يقبلها طفل صغير، فتخربت مصر منذ ذلك الحين، وسقطت تحت الاحتلال.

عندما اندلعت الثورة العرابية لتحقيق الاستقلال الوطني والتخلص من نفوذ الدول الأوروبية، دخل الإنجليز مصر عبر قناة السويس، وهزموا الجيش المصري الذي بنى خطته الدفاعية على أن الغزو سيأتي من الإسكندرية بناء على وعود الفرنسيين بأنهم لن يسمحوا بدخول الجيش الإنجليزي من القناة، وتم نفي أحمد عرابي وزعماء الثورة والسيطرة على مصر.

وها هي مصر اليوم تواجه أطماعا جديدة، وكأن التاريخ المرير الذي عانينا منه طوال القرنين الماضيين يكرر نفسه.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان