وجوه الجامعة العبرية وأقنعتها

الجامعة العبرية (منصات التواصل)

مرت مئوية افتتاح الجامعة العبرية بالقدس 1 أبريل نيسان 2025 بالصحف الإسرائيلية دون اهتمام ملحوظ، وفق نتائج البحث بمحرك غوغل بالإنجليزية والعربية، مع أهمية الجامعة في مشروع الدولة اليهودية العنصرية، ومنذ المؤتمر الصهيوني الأول ببازل 1897. ويتعزز هذا الاستنتاج عندما تسأل أكاديميينا المتابعين للصحافة باللغة العبرية، وإن كان التناول الإعلامي هنا أكبر نسبيا.

وأظن أنه لولا حدوث هجوم 7 أكتوبر 2023 الكبير وتداعياته الممتدة على جبهة الوعي عالميا بحقائق القضية الفلسطينية لكان لهذه المئوية شأن آخر داخل إسرائيل وخارجها، ولربما شاركت بها جامعات بدول عربية مطبعة.

سياق دعائي مزدوج

تحرص الجامعة العبرية على سياق أيديولوجي دعائي مزدوج يتعايش فيه تناقض الوجوه والأقنعة، بين نشأتها بدوافع سياسية استعمارية صهيونية عنصرية، والفخر بتفوقها ومنجزاتها علميا خدمة للبشرية جمعاء.

من يعود للموقع الإلكتروني للجامعة يلاحظ اليوم كيف يجرى استدعاء أينشتاين صاحب نظرية النسبية بقوة وإهداء أرشيفه لها؟ وتفاخرها بتقدمها للمرتبة 81 بين أفضل جامعات العالم بتصنيف شنغهاي 2024، وبأن علماءها وأبحاثها حصدوا 9 من جوائز نوبل: 4 في الكيمياء و2 في الفيزياء و 3 في الاقتصاد، وبأنها سجلت نحو 11 ألف براءة اختراع. كما ينوه الموقع بارتفاع نسبة العرب بين طلابها إلى 17 في المئة.

لكن الاحتجاجات ضد حرب الإبادة على غزة انتهت بعدد من طلابها إلى الاعتقال، وتظاهرة 28 مايو آيار 2024 داخل حرم الجامعة مثالا، بينما لم يجر المساس بأي طالب يتظاهر مؤيدا للحرب.

وتتكشف حدود الحريات الأكاديمية بالجامعة العبرية مع تعرض أكاديمييها للاضطهاد والضغوط لمواقفهم من الحرب، كحال الدكتورة نادرة شلهوب كفوركيان، وعالمة الاجتماع بالجامعة إيفا إيلوز، التي سحبت منها الدولة “جائزة إسرائيل” لتمسكها بالتوقيع على عريضة في 2021 تدعو المحكمة الجنائية الدولية ألا تعتد أو تثق بتحقيقاتها في جرائم جيشها.

المقاطعة الأكاديمية

وإبادة التعليم

انكشاف الوجه السياسي العنصري للجامعة العبرية تزايد منذ 7 أكتوبر 2023، فهي أولا أصبحت وجامعات إسرائيلية صهيونية أخرى هدفا لحملة مقاطعة أكاديمية عالمية، جراء تسليط الأضواء على إسهامها في الصناعات الحربية والبرامج التكنولوجية لصالح المجهود العسكري.

وبلغت الفعاليات الطلابية المعارضة لحرب الإبادة المناهضة للصهيونية في جامعات الغرب ( أوروبا والولايات المتحدة وكندا) دائرة التأثير والأفعال، فضغطت على مجالس عدد منها، ودفعتها إلى إجراءات متفاوتة الشدة من المقاطعة.

ومن كان يتصور امتداد المقاطعة الشهر الماضي مارس 2025 إلى هولندا المعقل التقليدي لنفوذ الصهيونية؟ فتوقف جامعة أمستردام برنامج تبادل الطلاب مع الجامعة العبرية، ويصدر عنها بيان يدين تورطها في انتهاك حقوق الإنسان بغزة وبرامج تطوير أسلحة للجيش الإسرائيلي، وكما ورد في الجيروزاليم بوست 18 مارس آذار 2025.

وفي التوقيت الهولندي ما يناقض ويتحدى حملة الرئيس الأمريكي ترامب القاسية على الحراك الطلابي مع فلسطين بالولايات المتحدة وخارجها، والتي بدأها بقرارات تنفيذية منذ اليوم الأول لعودته إلى البيت الأبيض.

إديو وسكول سيد

ينعكس صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته في مواجهة الإبادة في التعليم والتعليم العالي ثانيا باستدعاء وإحياء مصطلحي ” إديو سيد” و” سكول سيد”، أي إبادة التعليم، الذي ظهر مع العشرية الأولى للقرن الحادي والعشرين انطلاقا من تجربة العراق مع التدمير الأمريكي الاستعماري المنهجي لمرافقه وقدراته التعليمية.

وحتى صيف العام الماضي 2024، كانت الإحصاءات المعترف بها دوليا تشير إلى تدمير معظم مباني ومرافق جامعات غزة الست، ومن بينها فرع جامعة الأزهر. ووفق دراسة إبراهيم ربايعة و لورد حبش ” الحرب الخفية على التعليم العالي: كشف مذبحة التعليم في غزة” أسفر هذا الاستهداف، ولنلاحظ كيف بدأ مبكرا؟، عن مقتل ما يزيد على 450 أكاديميا وكادرا جامعيا حتى منتصف فبراير شباط 2024، من بينهم ثلاثة رؤساء جامعات وسبعة عمداء كليات و64 بروفسيرا، مع حرمان نحو 78 ألف طالب من متابعة الدراسة الجامعية بالقطاع.

وهو ما يذكر بقول القس الجنوب إفريقي الأنجليكاني ديزموند توتو الحائز على نوبل للسلام بمناسبة إعلان جامعة جوهانسبرج مقاطعتها لجامعة بن جوريون 2010:

” هذه الجامعات جزء لا يتجزأ من النظام الإسرائيلي وباختيارها الفعال. وبينما لا يستطيع الفلسطينيون دخول المدارس والجامعات، تقوم هي بإنتاج الأبحاث والتكنولوجيا والقادة الذين يديمون الاحتلال”.

أبراج العاج والصلب

ثلاث مقالات نشرتها صحيفة بجنوب أفريقيا أيضا، “ذا ميل أند غارديان”، خلال أبريل نيسان 2024، تلفت الانتباه إلى كتاب بعنوان ” أبراج من عاج وصلب: كيف تُنكر الجامعات الإسرائيلية حرية الفلسطينيين؟” للباحثة “مايا ويند”، والصادر مطلع العام نفسه من دار نشر “فيرسو” التقدمية بنيويورك ولندن.

ويتضمن الكتاب تشريحا تاريخيا ومعاصرا للنموذج الصهيوني الإسرائيلي في توظيف الاستعمار الأكاديميا لقمع الشعوب ومصادرة مقدراتها وحقوقها.  ويقدم أدلة موثقة على استخدام الجامعات الإسرائيلية كذراع أكاديمي للدولة العنصرية عسكريا وأمنيا، ويناقش مشاركتها في برامج صناعات السلاح واختبارها في الشعب الفلسطيني لتسويقها عالميا.

كما عند دراسات أخرى ظهرت حديثا في الغرب باللغة الإنجليزية، يشير كتاب مايا بالأخص لدور الجامعة العبرية المتزايد في مشروعات انتاج السلاح المتطور وتكنولوجيا جديدة لفرض سيطرة الاحتلال بجنود أقل، أي بتكلفة أدنى بين عناصره البشرية.

يحفر الكتاب في تاريخ الجامعة العبرية، ويوثق تعاون قسم الأحياء بالجامعة مع عصابات الهاجاناه الإرهابية لإعداد بكتيريا التيفوئيد والدسونتاريا (الزحار) سلاحا بيولوجيا لتسميم مصادر مياه البلدات الفلسطينية بهدف منع العودة إليها بعد مجازر النكبة، وتقدم حكومات مصر ودول عربية أخرى بتقارير وشكاوى لمجلس الأمن تفيد استخدام السلاح البيولوجي نفسه لتسميم القوات المصرية والعربية الأخرى خلال حرب 1948.

كما يناقش الكتاب راهن الجامعة العبرية في علاقتها بمحيطها الجغرافي اللصيق بالقدس العربية، وتوظيفها في خدمة الاستيطان والمراقبة والقمع والتهجير، كما بشأن قرية العيسوية. وفي كل هذا وغيره، ما يجعل الكتاب أهلا للترجمة والنشر والاهتمام بالعربية ولغات أخرى حية.

هل من استفاقة

هيروشيما وناغازاكي؟

يعود ليتنامى ويبرز بين الأكاديميين في العالم هذا المعيار القيمي والواقعي معا الذي لا يتغاضى عن الاستغلال السلبي للتفوق في العلوم والابتكار التقني، فلا يتسامح مع توظيف منجزاتها في إلحاق الضرر بالإنسان والبيئة والحضارة ولأجل الاضطهاد والتمييز العنصري وزيادة الفوارق الاجتماعية الطبقية داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات على حساب المساواة في حقوق العلاج والمعرفة، ولا يقبل بلعبة “الاستخدام المزدوج” المدني والعسكري للعلوم والتكنولوجيا.

الآن من فلسطين تنير شرارة استفاقة ووعي، تعيد للأذهان ما أثاره ضرب الولايات المتحدة لهيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية صيف 1945، ويقظة الضمير عند علماء ومفكرين وأدباء وفنانين ومثقفين جهروا برفض استغلال إنجازات العلم على هذا النحو التدميري الجماعي الإبادي، ولو تذرع بالضرورة وبغايات تبدو نبيلة، كحسم انتصار معسكر الديمقراطية والحضارة الإنسانية على همجية النازية والفاشية، وحليفهما الياباني في شرق آسيا. وكذا لو ساق كل الحجج لتبرير “الاستخدام المزدوج” للعلم.

*

لعل ما سبق يستدعى التساؤل عن مدى إسهام جامعاتنا، يتقدمها جامعة القاهرة، في بناء الوعي بهذا المعيار القيمي الواقعي، وإطلاق ورعاية مبادرات عالمية في مواجهة الجامعة العبرية وأخواتها الإسرائيليات المتفوقات، وأدوارها المزدوجة؟ ولماذا لا تبادر إلى حملة لكسر حظر الصهيونية وإسرائيل لليوم إنشاء جامعة فلسطينية عربية داخل مدينة القدس؟

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان