ترامب يهدد وماسك يغرد.. مآلات معركة “كسر العظم” في أمريكا!

في عالم السياسة، كما في عالم المال والأعمال، لا تُبنى التحالفات على الثوابت أو المبادئ، بل على المصالح المشتركة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو حتى شخصية، تُحرك خيوط العلاقة بين أطراف قد لا يجمعهم سوى هدف أو صفقة عابرة. وغالبا ما تتخذ هذه التحالفات طابعا رسميا ظاهرا، أو تظل طي الكتمان. لكنها في كل الأحوال، تقوم على منطق الربح والخسارة، لا على العاطفة أو الولاء، وتبقى خاضعة لحسابات دقيقة تتبدل بتبدل الظروف.
ورغم ما قد يبدو من متانة بعض هذه التحالفات، فإن التاريخ السياسي والاقتصادي الحديث يؤكد أنها هشة بطبيعتها، تنهار عند أول صدمة لـ”الأنا” أو تضارب في الأجندات. وهذا ما نشهده اليوم في الخلاف العلني بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والملياردير إيلون ماسك، بعد أيام قليلة من استقالة ماسك من منصبه الاستشاري في وزارة الكفاءة الحكومية. أعقب ذلك سلسلة من التصريحات المتبادلة، سرعان ما تحولت فيها منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات مواجهة مفتوحة بين الطرفين.
مصالح اقتصادية تحت التهديد
استخدم إيلون ماسك منصته “إكس” لنشر سلسلة من التغريدات المثيرة للجدل، بعضها حمل تلميحات غير مباشرة لترامب، أبرزها إشارته إلى ورود اسمه في سياق الملفات المرتبطة بجيفري إبستين، رجل الأعمال الذي وُجهت إليه اتهامات تتعلق بالاتجار الجنسي بالقاصرات، قبل إعلان وفاته منتحرا في زنزانته عام 2019 في ظروف لا تزال مثار جدل. ورغم أن ماسك قد حذف التغريدة لاحقا فإن صداها لم يتلاشَ، بل دفع ترامب إلى الرد عبر منصته “تروث سوشيال” بتصريحات غاضبة، هدد فيها بمراجعة جميع العقود الحكومية المبرمة مع شركات ماسك، بما فيها “سبيس إكس” و”ستارلينك” و”تيسلا”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل انتهى المشروع النووي الإيراني إلى غير رجعة؟
الضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
لم تقف تداعيات هذا التصعيد عند حدود الحرب الكلامية، فسرعان ما انعكست على الأسواق المالية، حيث شهدت أسهم تيسلا تراجعا حادّا تجاوز 14% خلال تداول يوم واحد، ما يعادل أكثر من 150 مليار دولار من القيمة السوقية. هذا الانخفاض فسره المحللون على أنه نتيجة مباشرة لحالة عدم الاستقرار بين اثنين من أقوى الشخصيات تأثيرا في البلاد.
في الوقت ذاته، أخذت الأسئلة تتصاعد حول مدى مشروعية هذا النفوذ وحدوده: هل من المقبول لرئيس دولة أن يهدد باستخدام أدوات الدولة لمعاقبة خصومة الاقتصاديين؟ وفي المقابل هل من المقبول أن يستخدم رجل أعمال نفوذه الرقمي ومعلوماته الخاصة أداة للتأثير في الرأي العام وتصفية الحسابات السياسية؟ إنها معركة لا تعكس فقط خلافا شخصيا، بل تسلط الضوء على غياب الخطوط الفاصلة بين المصالح العامة والخاصة، وعلى الأخطار الكامنة في تسييس الاقتصاد واحتكار الفضاء الرقمي لصالح الأجندات الفردية.
من حليف انتخابي إلى خصم سياسي
السؤال الأهم: ما الذي حوَّل ترامب وماسك من شريكي نفوذ في مرحلة سابقة إلى خصمين شرسين؟
في الواقع، العلاقة بين الطرفين كانت مبنية على تبادل المنفعة. ماسك قدَّم دعما غير مباشر عبر منصاته وشبكاته الاقتصادية، وترامب أتاح له هامشا واسعا من النفوذ داخل دوائر القرار. لكن الأمور بدأت تتغير عندما أعلن ماسك رفضه الصريح لمشروع قانون الضرائب والإنفاق الجمهوري، واصفا إياه بـ”المقزز”، ودعا متابعيه الذين يتجاوز عددهم 200 مليون إلى معارضته بشدة، ما اعتُبر خروجا فجا عن الخط السياسي الذي كان يسير فيه.
ثم زادت حدة الخلاف حين نشر ماسك تغريدة أخرى، قال فيها إن الجمهوريين ما كانوا ليحققوا أي فوز انتخابي لولا دعمه، مؤكدا أنه أنفق عشرات الملايين من الدولارات على الحملة الانتخابية. هذه التصريحات بدت لكثيرين محاولة من ماسك لابتزاز الاعتراف السياسي بدوره وتأثيره، وهو ما اعتبره ترامب تعديا على سلطته وتهديدا لصورة الرجل القوي القادر على الحشد والفوز بمفرده.
ومن هنا، لم يعد الخلاف مجرد تباين في الرؤى، بل تحوَّل إلى صراع إرادات بين رجل يرى نفسه صانع القرار السياسي، وآخر يعتقد أنه يمتلك مفاتيح المستقبل التكنولوجي والاقتصادي لأمريكا.
ما الذي يكشفه هذا الصراع فعليا؟
صدام ترامب وماسك ليس مجرد خلاف بين شخصيتين نافذتين، بل يعكس حالة أعمق تشهدها الساحة الأمريكية، حيث تتقاطع خطوط السياسة مع دوائر المال والتكنولوجيا بشكل غير مسبوق، وتصبح السلطة معرَّضة للتأثر، بل وللسيطرة أحيانا، من قِبل أفراد يمتلكون منصات تأثير بحجم دول.
فماسك لا يمثل مجرد رجل أعمال ناجح، بل هو رجل يملك أدوات تصنع الرأي العام وتوجّه السوق وتحاور السلطة، من الأقمار الصناعية إلى السيارات الذكية مرورا بالإعلام الرقمي. وفي المقابل، لا يزال ترامب نموذجا لسياسي يمزج بين الحضور الشعبوي والمصالح الاقتصادية، ويعرف كيف يحوّل الخلاف إلى معركة رأي عام.
وراء هذا الاشتباك المعلن، تلوح أسئلة أكثر تعقيدا: من يضع الحدود حين يتضخم النفوذ؟ ومن يحمي المؤسسات حين تتحول الدولة إلى ساحة تتقاطع فيها المصالح الشخصية مع السيادية؟
هذه ليست معركة عابرة في مشهد أمريكي صاخب، بل جرس إنذار يقرع بقوة.
وفي النهاية، قد ينتصر أحدهما أو يخسر كلاهما، لكن ما سيبقي مقلقا حقا هو هذا الانزلاق البطيء نحو تقزيم الدولة على مقاس الأفراد، حيث لا يكمن الخطر في الخلاف بحد ذاته، بل في قدرة المؤسسات على احتوائه.