أزمة دير سانت كاترين.. السيادة الوطنية والنفوذ الأجنبي

دير سانت كاترين الواقع في جنوب سيناء المصرية هو أقدم دير مسيحي مأهول بالسكان بشكل مستمر في العالم، وإن كان هو الدير الثاني تاريخيا في مصر بعد دير الأنبا أنطونيوس مؤسس الرهبنة في مصر والعالم في نهاية القرن الرابع الميلادي تقريبا، وهو لا يتبع الكنيسة المصرية مثل بقية الأديرة المصرية، بل يخضع لوصاية دينية يونانية قديمة، بعد خضوعه من قبلُ لوصاية دينية روسية، ولذا فقد انتفضت الحكومة اليونانية والإعلام اليوناني ضد حكم قضائي أصدرته محكمة مصرية يوم الأربعاء الماضي (محكمة استئناف الإسماعيلية) قضى باعتبار قطع أراض مجاورة للدير ملكية عامة للدولة المصرية، مع تأكيده لحق تابعي الدير في الانتفاع بها، وهو ما رفضه رهبان الدير ومن خلفهم الكنيسة والحكومة اليونانية.
حتى الآن يجري تسويق المشكلة عبر الدعاية اليونانية الرسمية والدينية باعتبارها إغلاقا للدير المقدس، والهدف هو استنفار المشاعر المسيحية في العالم ضد هذا الحكم القضائي، ومحاولة فرض الرواية اليونانية، والحقيقة أن الأزمة تتعلق بقطع أراض مجاورة للدير، قام الرهبان ببناء بعض المنشآت عليها دون موافقات رسمية، وجعلها أمرا واقعا، في تكرار لأزمات أديرة أخرى من قبل.
مخاوف التجلي الأعظم
ربما تكمن الأزمة في مخاوف إدارة الدير ومن يقفون خلفها من مشروع التطوير السياحي للمنطقة الذي تبلغ تكلفته 4 مليارات جنيه (مشروع التجلي الأعظم) وتستهدف منه الحكومة المصرية زيادة السياحة إلى المنطقة، فهذه المخاوف أصبحت سمة عامة لدى المصريين مع إعلان الحكومة عن أي مشروع سياحي أو عقاري كبير، وقد تدخلت رئاسة الدولة لطمأنة اليونانيين بشكل مباشر عدة مرات بدأت بتصريحات علنية للسيسي خلال زيارته اليونان يوم 8 مايو/أيار الماضي، نفى فيها وجود نية سيئة اتجاه الدير مؤكدا أن هناك “التزاما مصريا يونانيا أبديا اتجاه الدير لا يمكن المساس به”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
أبعاد الضربة الأمريكية لإيران
السنة النبوية وميراث البنات المنفردات
لكن الحكم القضائي جاء بعد هذا النفي فتجددت الأزمة، وتصاعدت التصريحات الغاضبة من مسؤولي الدير (الرهبان اليونانيين) ومن الحكومة اليونانية وبعض المؤسسات اليونانية الأخرى، فجرت اتصالات عاجلة بين وزيري خارجية البلدين، أعقبتها تصريحات من رئاسة الجمهورية تؤكد استمرار الأوضاع في الدير كما هي، وأن حكم المحكمة هو تأكيد للمكانة المقدسة للدير، وعدم المس بها، ومع ذلك لم تتوقف الأزمة حتى كتابة هذه الكلمات فيما بدا أنه محاولة يونانية لليّ ذراع الحكومة المصرية، وإجبارها على تجاوز الحكم القضائي، والإقرار بملكية الدير لكل الأراضي المجاورة له، ومنها محميات طبيعية، ومناطق أثرية مسجلة في اليونسكو.
ضمن التصعيد اليوناني محاولة الزج باسم الإخوان المسلمين في الأزمة بهدف تسييس القضية، والزعم أن دوافع دينية طائفية خلفها، وهذه المحاولة استفادت من الأجواء المعادية للإخوان في مصر والمنطقة، فرئيس الدير ادعى أن الأزمة بدأت برفع دعوى قضائية ضد الدير عام 2012 إبان ما وصفه بالحكم الإخواني، وأن القاضي الذي أصدر الحكم مؤخرا هو قاض إخواني، والحقيقة أن من رفع تلك الدعوى هو جنرال سابق (اللواء أحمد رجائي عطية مؤسس المجموعة 777)، ودعمته في البداية محافظة جنوب سيناء، لكن القضية لم تتحرك عمليا إلا في عام 2015، وظلت تتنقل في ردهات المحاكم حتى صدور حكم الاستئناف الأخير الذي جاء على خلاف توقعات إدارة الدير، وحسم قضية السيادة على الأرض باعتبارها أملاك دولة وليست أملاكا خاصة للدير أو لليونان.
سياسة الأمر الواقع
محاولة فرض الأمر الواقع في دير سانت كاترين سبقتها محاولات في أديرة أخرى، ومنها أزمة دير “أبو فانا” بمحافظة المنيا في صعيد مصر، التي وقعت عام 2008 حين قام رهبان الدير بتوسيع مساحته دون موافقة رسمية، وأنشؤوا سورا حول هذه الأراضي الجديدة، مما أثار أزمة طائفية في حينه، وتكرر الأمر في دير الأنبا مكاريوس في وادي الريان غربي الجيزة في فبراير/شباط 2011 أي عقب شهر واحد من وقوع الثورة المصرية، واستغلالا لحالة السيولة الأمنية في تلك الفترة، حيث قام المسؤولون عن الدير بالاستيلاء على 13 ألف فدان وضمها إلى حرم الدير وبناء سور حولها، لكن المجلس العسكري تصدى لتلك المحاولة آنذاك. ومن الواضح أن هذه الخلفيات حاضرة في وعي المؤسسة الأمنية المصرية في الأزمة الحالية مع اليونان رغم العلاقة المتميزة التي تجمع البلدين.
أزمة دير سانت كاترين ترتبط بشكل أساسي بالسيادة المصرية على المكان، في حين يعتبره الرهبان محمية يونانية، وقد كان ذلك هو سبب بداية الأزمة، فالجنرال الذي رفع الدعوى عام 2012 أقدم على تلك الخطوة بعد منعه وأسرته من دخول الدير بحجة أنه أرض غير مصرية، والواضح من التصريحات المتتالية لإدارة الدير وللمسؤولين اليونانيين أنها تحمل هذا المعنى، وربما تخشى اليونان فقدان سيطرتها على الدير، وربما لا تريد تكرار ما حدث مع كنيسة أيا صوفيا التركية التي تحولت إلى متحف، وبعد عقود تحولت إلى مسجد.. وهي مخاوف وهمية تماما لأن مصر بغض النظر عن النظام الذي يحكمها تدرك القيمة التاريخية لهذا الدير، وأهمية الحفاظ عليه، وتسويقه عالميا.
رغم أن الأديرة هي بالأساس مكان للعبادة والتنسك والزهد، فإنها أصبحت إمبراطوريات اقتصادية ضخمة، تضم مزارع ومصانع تتجاوز احتياجات رهبانها والعاملين فيها، وتصدر فوائض منتجاتها إلى بقية المجتمع، كما أن بعضها يمثل مزارات مهمة تسهم في تنشيط الحركة السياحية، وربما تسببت المغانم الاقتصادية في حدوث توترات داخلها، وحولها، لذا فمن المهم إصدار قانون لتنظيمها، وإخضاعها للإشراف المالي والإداري لمؤسسات الدولة، ضبطا للأداء الاقتصادي فيها، ولمصادر تمويلها، وتنظيما لمساحاتها وتوسعاتها المستقبلية، منعا للتوترات، وحفظا للأمن والاستقرار.