بين مجازر غزة واقتحام الأقصى.. هناك ما هو أشد خطرا

الانتهاكات الإسرائيلية مستمرة، والمجازر في قطاع غزة لا تتوقف، واقتحامات المستوطنين للأقصى لا تهدأ، وتهويد القدس يتواصل، كل ذلك تزداد وتيرته يوما بعد يوم، والجميع يلوذون بالصمت، وكأنما الأمة العربية والإسلامية تتنصل من مسؤوليتها اتجاه فلسطين وغزة والقدس والأقصى.
لقد بات واضحا أن الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والأقصى أصبحت أمرا اعتياديا، وهذا أكبر خطر قد يصيب الضمير الجمعي للأمة العربية والإسلامية والعالم أجمع: الاعتياد على الانتهاكات، وقبول المآسي التي يتسبب فيها المحتل الغاصب.
فشل الأمة في اختبارات القداسة الثلاثة
كيف فشل العرب والمسلمون في اختبارات القداسة الثلاثة في فلسطين؛ قداسة النفس، وقداسة الأقصى، وقداسة الأرض؟ كيف أصبحت المجازر والاقتحامات المتكررة واغتصاب الأرض تمر دون ردّ يتناسب مع خطورتها، وغضب يكافئ فظاعتها؟ وكيف غاب العرب والمسلمون بشكل كلي عن معركة غزة، ثم يغيبون اليوم أيضا عن معركة القدس والأقصى؟
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالتداعيات الاقتصادية للحرب الإسرائيلية الإيرانية على مصر
قلق أنقرة المزدوج: كيف تهدد حرب طهران–تل أبيب الأمن التركي؟
أروع من انتصار الأيام الستة.. نتنياهو يتقدّم!
هذا ما يحتاج الوقوف عنده والنظر فيه، ونحاول قراءته خلال سطور هذا المقال.
ذرائع الصمت وغياب الغضب
عندما نتساءل عن غضب العرب والمسلمين للدماء التي تُسفك في غزة، كان البعض يختبئ وراء ذرائع واهية، هي عذر أقبح من ذنب، وأوهن من بيت العنكبوت.
فأي ذرائع يمكن أن تلوذ بها الأمة العربية والإسلامية في غياب غضبها اتجاه الاقتحام السافر للأقصى، الذي أقدم عليه إيتمار بن غفير وزير الأمن الإسرائيلي، ومعه حشود غير مسبوقة من المستوطنين، في تحدٍّ لمقدسات المسلمين؟
ولكن، هل يتحرك لأجل الأقصى من لم تحركه مجازر غزة ومشاهد القصف والحرق والتجويع؟
وهنا نتساءل مرة أخرى: لماذا لا يغضب العرب والمسلمون للدماء التي تُراق في غزة، وللاقتحامات المستمرة للأقصى؟
هل تجاوزت شعوب الأمتين العربية والإسلامية التطبيع السياسي إلى “التطبيع العاطفي” مع الدماء والاقتحامات؟
من غياب الغضب إلى التطبيع العاطفي والتبلد
بين مجازر غزة واقتحام الأقصى هناك ما هو أشد خطرًا؛ إنه “التطبيع العاطفي” مع تلك الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة والاعتياد عليها.
مع تكرار المجازر والانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، خاصة في غزة والقدس، يبرز مفهوم “التطبيع العاطفي” أو “الاعتياد العاطفي” ظاهرة شديدة الخطورة وغير ملموسة.
المشكلة هنا ليست فقط في استمرار الجرائم والانتهاكات، بل في أن يصبح القتل والحرق والقصف والدمار مجرد مشاهد “عادية” لا تحظى بسوى اهتمام عابر. وإذا كان التطبيع السياسي تقوم به الحكومات وتحركه المصالح المزعومة، فإن التطبيع العاطفي، الناجم عن اعتياد المجازر والاقتحامات، يتسلل إلى الوجدان الشعبي، ويشل القدرة على الغضب، ويخنق الحافز للتضامن، ويحوّل الفظائع والمآسي إلى مجرد روتين يومي وخبر عادي.
في السياق الفلسطيني يتجلى “التطبيع العاطفي” للعرب والمسلمين في نسيان مجازر الاحتلال الإسرائيلي بعد ارتكابها بوقت قصير، وفي صمت الشارع العربي والإسلامي حين يُقتحم الأقصى، وفي برود الموقف وعدم تناسبه مع الخطر الداهم.
إن هذا التطبيع العاطفي لا يعني الموافقة على الانتهاكات الإسرائيلية، ولكنه يعكس ما هو أخطر من ذلك، وهو التبلّد الذي أصاب الدول العربية والإسلامية، نُظمًا وشعوبًا إلا قليلًا، والذي يُعد استسلامًا صامتًا، يوفر للاحتلال الإسرائيلي المناخ لممارسة وحشيته وانتهاكاته، وهو على ثقة من أنه لن يتحرك أحد.
مظاهر التطبيع العاطفي
مظاهر التطبيع العاطفي مع انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي على المستوى العربي والإسلامي نراها اليوم بوضوح في وقائع ملموسة، وتتمثل في:
أولًا: تراجع الردود وغياب التفاعل الجماهيري الجارف الذي كان يواكب أي اعتداء على الأقصى أو على غزة، فغابت المسيرات عن العواصم، وحتى الشعارات توارت من الشوارع.
من قبل، كان سقوط شهيد واحد يشعل الشوارع، والآن يُستشهد العشرات يوميًّا، وأعداد الشهداء بعشرات الآلاف، ولا يتحرك في الشارع العربي والإسلامي ساكن، وأصبح منسوب الدم المُراق لا يقابله منسوب غضب مكافئ.
بالأمس كان المساس بالأقصى يزلزل الأمة كلها من شرقها إلى غربها، ويُشعل الانتفاضات، واليوم بات اقتحام الأقصى خبرًا عاديًا في نشرات الأخبار. واقتحام بن غفير للأقصى نموذج واقعي للتطبيع العاطفي، حيث مر على الشارع العربي والإسلامي دون ردّ يُذكر.
ثانيًا: ضعف في الحراك الدبلوماسي، يعكسه غياب المبادرات العربية والإسلامية الجادة لوقف الانتهاكات، وأصبح الأمر مقتصرًا على بيانات تقليدية لا يتبعها فعل دبلوماسي حقيقي وجاد.
ثالثًا: ضعف الدعم الإنساني والسياسي الذي يتناسب مع حجم الكارثة.
رابعًا: كما تراجعت التغطيات الإعلامية الجادة في أغلب الدول، ولولا “قناة الجزيرة” لأصبح ما يحدث في فلسطين على الهامش بين الأخبار الأخرى.
تداعيات كارثية تصيب الوعي والمقاومة
إن نتائج هذا الاعتياد أو “التطبيع العاطفي” مع جرائم الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته بحق غزة والأقصى، تمثل خطرًا كبيرًا يتجاوز الصعيد السياسي لينال من الوعي الجمعي للأمة والعالم، ويُضعف روح التضامن بأشكاله المختلفة، ويؤدي إلى تراجع المقاومة، بحيث يصبح الاحتلال واقعًا يستعصي تغييره.
كما يُفرغ هذا الاعتياد رمزية القدس والأقصى من بعدها الديني في وجدان المسلمين.
والأهم من ذلك أنه يوفر للاحتلال الإسرائيلي الفرصة للمضي قدمًا في مشروعه الاستيطاني دون خشية عواقب أو ردّ على المستوى الشعبي عربيًّا وإسلاميًّا.
إن الاحتلال الصهيوني يدرك أن الاعتياد والتطبيع العاطفي مع الانتهاكات أداته لترويض العقل والوجدان العربي والإسلامي، ليصبح القبول بالأمر الواقع هينًا، وهو ما يعني في المخيلة الصهيونية أن العرب والمسلمين سيكونون مهيّئين عند الشروع في تغيير واقع الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، وأكثر قبولًا لهذا الوهم إن حدث.
تطبيع سياسي يشرعن وعاطفي يخدر
إننا إزاء تطبيع سياسي مصاحب له تطبيع عاطفي إجباري، عبر الاعتياد على الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، التي قادت إلى فتور الشعور بدلًا من تصعيد الغضب والمواجهة، وأصابت الوجدان بالخدر وسحبتنا تدريجيًّا من معركة الوعي.
أخطر من مجازر غزة واقتحام الأقصى الاعتياد على ذلك والصمت.
إن الصمت على جرائم الاحتلال الإسرائيلي لا يُعد حيادًا، بل هو تطبيع عاطفي يشارك في صناعة الانتهاكات والجرائم عبر السكوت.
إن أخطر ما قد يحدث هو أن تتحول شعوب الأمة العربية والإسلامية تحت وطأة الاعتياد من شعوب تنبض إلى شعوب تراقب العدوان وتقبله بحجة أنه أمر واقع.
إن العرب والمسلمين اليوم أحوج ما يكونون إلى تذكيرهم بأسباب غضبهم، وإعادة تشكيل أدوات هذا الغضب، حتى يصبح عاطفة لها مخالب وأنياب.
إن التطبيع العاطفي أخطر من التطبيع السياسي، بل أشد خطرًا من الإبادة في غزة واقتحام الأقصى، لأنه يشل القدرة على الغضب، والرفض، ومواجهة الظلم.
كسر دائرة التطبيع العاطفي
يبقى سؤال مهم: كيف يمكن كسر دائرة التطبيع العاطفي والاعتياد؟
يحتاج ذلك إلى إرادة ووعي، وإعادة طرح قضية فلسطين بلغة الكرامة والوجدان، والتعامل مع فلسطين باعتبارها قضية مرتبطة بهويتنا وعقيدتنا، واستعادة رمزية القدس في خطابنا وربطها بالعقيدة والهوية، وألّا نتعامل مع الانتهاكات الصهيونية على أنها أمر واقع، وأن تدفع الشعوب العربية والإسلامية حكوماتها إلى اتخاذ مواقف أكثر جرأة ضد الاحتلال الإسرائيلي ومن يقف وراءه.