أسرارنا بين شبح المراقبة الصينية وفخ التجسس الغربي!

شعار "ميتا" عبر شاشة هاتف نقال (الأناضول)

خلفت الحرب الإيرانية مع الكيان الصهيوني، ومن قبلها العدوان الإسرائيلي على لبنان، حالة من الرعب لدى أنظمة حاكمة وجدت مسؤوليها في مواجهة مباشرة مع الصواريخ وشبكات التجسس والطائرات الموجهة التي قتلت قادة عسكريين وعلماء في مضاجعهم.

أدركت الأنظمة أنها عارية أمام نوعية جديدة من الحروب، لا يمكنها الفكاك من أخطارها رغم ما تتخذه من إجراءات لحجب المعلومات عن الأعداء وتقييد حرية المواطنين في الوصول إلى المعلومات والتواصل عبر شبكات وتطبيقات الهواتف. دفعت الصدمة الأنظمة إلى زيادة القيود على المواطنين، دون أن تضع حلولا عملية تستر عيوبها أو تعيد إلى الشعوب إحساسها بالأمان المفقود، خاصة بعد أن أدرك الناس أنهم ليسوا بمفردهم “عراة ” أمام سلطات قمع سياسي منظم تدير شبكات مراقبة واسعة الانتشار بالشوارع ووسائل تتبُّع، ولم يعد لديهم خصوصية في أي شيء أمام معدات قادرة على رصد أنفاسهم وتتبُّع مخيلات عقولهم عبر الهواتف والمنتجات التي يستعملونها، سواء كانت مرتبطة لحظيا بشبكات الإنترنت أو يتحكم بها عن بُعد، لحساب دول تنتجها سواء كانت صينية أو أمريكية أو إسرائيلية.

في عالم أصبحت فيه البيانات “ذهب القرن الواحد والعشرين”، نجد أنفسنا محاصرين بين مطرقة التجسس الغربي وسندان الرقابة الصينية، في واقع رقمي لا يرحم، ويفرض نفسه على الأفراد والمؤسسات والدول على حد سواء. ومع كل عملية اغتيال دقيقة أو تسريب تقني، نكتشف اختراقات مخيفة، فتتجدد الأسئلة: هل أصبح الهاتف المحمول و”البيجر” وتطبيقات التواصل وحتى الكاميرات الذكية عيونا علينا، تعمل لصالح أطراف خارجية؟ وهل لدينا مخرج في عالم تهيمن عليه قوتان رقميتان؛ واحدة تراقب شعبها على مدار الساعة وتحصي أنفاسه، وأخرى تبيع الحرية في مقابل الوصول الكامل إلى البيانات التي قد نخفيها عن أهل بيتنا ولا يطلع عليها أحد؟!

شواهد الاغتيال

لم يكن اغتيال قادة من حزب الله وحماس وإيران أخيرا، سواء في بيروت أو دمشق أو طهران، مجرد عمل عسكري دقيق، بل هو تجلٍّ واضح لقدرة استخبارية فائقة تعتمد على المعلومة الرقمية، إضافة إلى الرصد الميداني الذي يتقنه الجواسيس على الأرض. يدفعنا الغدر الإسرائيلي إلى التساؤل: كيف يُرصد شخص في مكان مغلق؟ وكيف تُعرف تحركاته، حتى لو استخدم هاتفا محليا؟ هنا يبرز دور التكنولوجيا المرتبطة ببيانات الهواتف، تطبيقات التواصل، الكاميرات العامة، وحتى أنظمة الدفع الإلكتروني التي تُجرى عبر شبكات اتصال مغلقة، لا يمكن الولوج إليها بسهولة، ويُفترض أن تكون مؤمَّنة بقوة من قِبل الأجهزة السيادية والرقابية.

كم أثار هذا الواقع مخاوف لدينا وكثير من الناشطين والسياسيين والمواطنين في العالم العربي، الذين أصبحوا يرون في منتجات الغرب الرقمية -من واتساب إلى إنستغرام، ومن آيفون إلى خدمات غوغل- أدوات مراقبة مخفية مثل “بيغاسوس” الإسرائيلي. في الوقت ذاته، عندما يبحثون عن البدائل لا توفر الصين نموذجا مريحا، فهي وإن طورت بنية تكنولوجية محلية، لكنها أقامتها على أسس رقابة استبدادية غير مسبوقة، كما يظهر في مشروعات مثل “الرقابة السحابية” التي تفرضها أجهزة الأمن القومي على خوادم أجهزة الشركات والأفراد، أو “نظام الائتمان الاجتماعي” الذي يدمج كل معلومة رقمية مالية أو صحية أو شخصية في صورة موحدة عن الفرد، تُستخدم لمراقبته ومعاقبته إذا رغبت السلطة في ذلك بأي وقت.

التجسس باسم “الابتكار”

في الغرب، ورغم تبنّي خطاب “الحرية الرقمية، فإن الممارسات الواقعية تكشف تناقضا صارخا، فالولايات المتحدة -مثلا- تستخدم شركات مثل Meta وGoogle وPalantir أذرعا خفية لجمع البيانات ليس فقط من مواطنيها، بل من العالم كله. تُظهر التقارير كيف تباع بيانات خاصة من تطبيقات مثل فيسبوك وأخرى شائعة -مثل الخرائط أو الألعاب أو حتى تطبيقات تتبُّع الحيض والحمية الرياضية- إلى وسطاء يُعرفون باسم “سماسرة البيانات”، الذين بدورهم يبيعونها لشركات تجارية والوكالات الحكومية، منها الشرطة وإدارة الهجرة والجمارك ” ICE” والمخابرات والجيش.

هذه المخاوف أثيرت في تقرير موسع بالعدد الأسبوعي الأخير بصحيفة “نيويورك تايمز”، كشف عن كيفية استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في أمريكا لتحليل البيانات من مصادر مختلفة -من وسائل التواصل إلى قواعد بيانات الضرائب والهجرة- لتشكيل رؤية عما إذا كان الشخص يمثل خطورة أمنية، دون سابق معرفة به. يستهدف التحليل تقييم خطورة كل هدف، ويفترض أن كل ما تتعامل معه الأجهزة هم فئة من الأشرار إلى أن يثبت العكس، بل إن بعض المدارس في الولايات المتحدة -وفقا للتقرير- بدأت باستخدام خوارزميات لتقييم خطر “تسرب الطلبة” من التعليم، دون علم الأهل أو موافقتهم.

الصين نموذج بديل

في المقابل، تقدّم الصين نموذجا مناقضا للتحكم الكامل في التكنولوجيا والبيانات، لكنها سيطرة تدار بيد الدولة، بعيدا عن وسائل حماية الحقوق الأشخاص وحرية السوق. في هذا السياق، لم تكن الرقابة مجرد احتمال، بل هي واقع يومي، فهناك عشرات الملايين من الكاميرات في الشوارع، وتُفرض على مستخدمي الهواتف وأجهزة الكمبيوتر تطبيقات ملزمة للمواطنين، ومراقبة دائمة للرسائل الخاصة، يمكن اختبارها أثناء عبور الميادين أو المناطق الحساسة بالدولة، بل تجري تقييمات لسلوك الأفراد تؤثر في قدرتهم على الحصول على قروض بنكية وتذاكر السفر بين المقاطعات أو الخارج أو تعليم أطفالهم في مناطق دون أخرى.

رغم الانتقادات، فإن هذا النموذج يثير إعجاب بعض الحكومات الساعية “للسيطرة” أو الاستبداد باسم الأمن، وهو ما يظهر في محاولات بعض الأنظمة العربية استيراد تقنيات صينية بديلا للمراقبة، أو تطبيق أدوات تحقق من الشخصية على الطرق وارتياد الأماكن العامة للمشتبه فيهم أو على من ينتقدون الدولة على الإنترنت.

بين المطرقة والسندان

نحن -شعوبا ودولا- في مأزق حقيقي، فليس لدينا ما يستر عوراتنا أمام أحبائنا قبل أعدائنا وهم كثر، لعدم امتلاكنا التكنولوجيا الخاصة بنا. نعتمد بالكامل على البنية التحتية الغربية التي يتفاخر صهاينة تل أبيب بأن لديهم باعا كبيرا في تصنيعها وإدارتها، بما يملكونه من شبكات الإنترنت وابتكار الأجهزة والتطبيقات المشغلة لكل الوسائل الحديثة، بينما تتبنى أنظمتنا نماذج رقابية تُستلهم من التجربة الصينية الشديدة القسوة.

النتيجة التي أدركناها أخيرا أن الأفراد أو الشركات لا يتمتعون بحرية رقمية، ولا الدول تمتلك سيادة تقنية، وأن التهديد لا يتوقف عند حدود حياة القادة والنخب أو الناشطين، بل يمتد ليشمل المواطنين العاديين، وبياناتهم المالية والصحية وتحركاتهم وعاداتهم الاستهلاكية وآرائهم السياسية، وحتى حياتهم العاطفية. هذا التهديد يتعاظم في ظل غياب قوانين خصوصية صارمة، ومجتمع مدني قادر على الرقابة والمساءلة. يبدو المشهد بعد الحرب سوداويا بما يتطلب سرعة التحرك عبر مسارات وطنية وشعبية، لحماية أرواحنا وأسرارنا.

يجب ألا ننسى أن الدول الكبرى تتحول إلى ما يشبه “الاستعمار الرقمي” الذي لا يستهدف السيطرة على الأرض فقط، بل على النقود والثروات والبيانات والعقول، وأن البقاء في هذا السباق لن يكون عبر الشكوى من تغول الصين أو خبث الغرب، بل عبر امتلاك أدوات الحماية، وفرض قواعد عادلة، وبناء بيئة رقمية لا تُمكّن أحدا من أن يطَّلع على كل شيء في حياتنا، دون محاسبة ودفع الثمن.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان