هكذا ماتت فتيات المنوفية

جنازة فتيات المنوفية ضحايا الطريق الإقليمي (منصات التواصل)

مأساة مرعبة صادمة أدمت قلوب المصريين، وأثارت غضبا واسعا بينهم. جرت وقائعها بمحافظة المنوفية على مسافة 70 كيلومترا من العاصمة المصرية القاهرة. راح ضحيتها 19 فتاة في عمر الزهور وسن المراهقة، ضحايا للفساد والفقر والإهمال، في حين تصارع ثلاث فتيات أخريات الموت.

مع بزوغ فجر الجمعة، وبينما كل شيء على ما يُرام في قرية “كفر السبانسة” بمحافظة المنوفية، نهضت مجموعة فتيات صغيرات (من 12 إلى 20 سنة) من نومهن مبكرا كعادتهن. يجمع بينهن الشقاء والعمل في مزرعة لجني محصول العنب طوال اليوم مقابل مبلغ زهيد يوميا. أسرعن للحاق بـ”ميكروباص” يحملهن حشرا إلى المزرعة التي يعملن بها. كل واحدة منهن تفكر وتحلم بما ستفعله بحصيلة الشهر من الجنيهات القليلة (130 جنيها – دولاران ونصف).

دماء غزيرة.. وأشلاء متناثرة على الأسفلت

من شهيدات لقمة العيش طالبات في المدارس والجامعات، إحداهن تدرس بكلية الهندسة. خرجن للعمل أملا في تدبير الرسوم الدراسية أو شراء طاقم ملابس جديد ترتديه في العام الدراسي القادم. كلهن يعانين الفقر المدقع. بعضهن انصرفن عن التعليم لأن مصروفاته فوق احتمال أسرهن. ربما راود بعضهن شعور بالخوف في هذا اليوم، الذي لم يكن عاديا. لم يخطر ببالهن أن الموت يتربص بهن على الطريق الإقليمي.

تحالف عليهن الفقر والتسيب مع طريق رديء وسائق أرعن متهور لسيارة نقل “تريلا” لخطف أرواحهن واغتيال أحلامهن الصغيرة، وكتابة نهاية كارثية مفجعة بالموت دهسا داخل “الميكروباص” تحت عجلات “التريلا” المتوحشة. قتلهن بلا رحمة في لحظة سوداء، لتسيل الدماء غزيرة، وتتناثر أجسادهن أشلاء على الأسفلت، لترسم مشاهد مفزعة تنفطر لها القلوب.

اعترافات سائق “التريلا”.. والتحليل المعملي للمخدرات

وقع الحادث صباح الجمعة أمام قرية “مؤنسة” بمركز أشمون على الطريق الإقليمي، وأسفر عن وفاة 19 فتاة. وفقا لبيان رسمي للنيابة العامة، انتقل فريق من أعضائها إلى موقع الحادث للمعاينة ومناظرة جثث المتوفين.

أسفرت المعاينة وتحريات الشرطة عن تجاوز قائد “سيارة نقل – تريلا” الحاجز الخرساني الفاصل بين اتجاهي الطريق، لتندفع إلى الاتجاه المعاكس وتصطدم وجها لوجه بسيارة الميكروباص التي كانت تقل الضحايا. أمرت النيابة بحبس سائق النقل احتياطيا على ذمة التحقيقات، في حين كشف التحليل المعملي لعينة منه عن تعاطيه مواد مخدرة وقت الحادث.

وفقا لاعترافاته، فإن اختلال عجلة القيادة مع السرعة الزائدة دفعاه إلى اقتحام الحاجز والاصطدام، وأنه لم يرَ شيئا بعدها سوى الميكروباص وركابه تحت عجلات التريلا.

طريق الموت.. وقادة المركبات وشروط المتانة

بحسب إحصائية رسمية صادرة أخيرا عن “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء”، بلغ عدد حالات الوفيات الناتجة عن حوادث الطرق عام 2024 ما مجموعه 5260 حالة، بينهم 4397 من الذكور و863 من الإناث. بينما بلغ عدد الجرحى 76362، بينهم 61853 ذكورا و14509 إناثا.

وفقا للخبراء، ترجع حوادث الطرق إلى ثلاثة عوامل، أولا: جودة الطريق، التي لم تتوفر في هذه الكارثة، إذ وُصف الطريق الإقليمي في بيان للدكتورة جيهان مديح، رئيس حزب مصر أكتوبر، بأنه “طريق الموت”.

ثانيا: المركبات، فكثير منها يفتقر إلى شروط المتانة والسلامة والأمان، ويُستخدم أحيانا لأغراض مخالفة للتراخيص، كتحميل عدد زائد من الركاب، مثل الميكروباص (14 راكبا) الذي كان يحمل 22 فتاة. كما تحمل سيارات النقل أكثر من الحمولة المقننة، مما يضعف كفاءة الفرامل ويؤدي إلى الحوادث.

ثالثا: قادة المركبات، وبعضهم يتعاطى المخدرات (مثل سائق التريلا)، إضافة إلى العابرين للطريق، نتيجة غياب الوعي المروري والفوضى في مناطق بعيدة عن الرقابة.

مرافعة الفنان أحمد زكي

مأساة فتيات العنب كشفت عن خلل مجتمعي صارخ، فأمثال هؤلاء الفتيات كان يجب أن تكون وجهتهن كل صباح إلى المدارس والجامعات، لا إلى مزارع العنب. هدفهن كان التعلم وتحقيق الطموحات، والاستمتاع بالحياة.

البشر هم عماد النهضة، والأمم الساعية للتفوق تُركّز على التعليم والتنمية والرعاية، لكن بلادنا تتركهم للإهمال.

كارثة فتيات العنب نتاج الفساد والإهمال والفوضى المرورية والترهل الإداري ورداءة الطريق، لا يتحمل مسؤوليتها سائق “التريلا” وحده.

في هذه الحالات، نستدعي المرافعة المؤثرة للفنان أحمد زكي في فيلم “ضد الحكومة”، حين قال إنه يرفض تحميل المسؤولية لموظف صغير أو سائق متعاطٍ، لأن الخلل في المنظومة كلها.

أيّا كان سبب هذه الكارثة، فالمؤكد أن أمهات الفتيات وآباءهن سيمضون بقية حياتهم غارقين في الحزن. لن تعوضهم أي أموال عن فقد الأبناء، ولن تلتئم جراحهم مهما طال العمر.

نسأل الله لهم الصبر، وأن يُنزل السكينة على قلوبهم المكلومة.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان