أحمد الشرع يمحو جمال عبد الناصر

الرئيس السوري أحمد الشرع (رويترز)

 

ندخل بعنوان مستفز ولا ننوي المديح ولا الهجاء إنما نتحسس تغييرا عميقا يجري في الأفكار والأطروحات والتكتيكات السياسية في المنطقة العربية ونقرأها كمؤشرات على تغيير عميق سينهي حقبة طالت وأفكارا فقدت بريقها ويمهد لحقبة جديدة بقيادات جديدة تبني السياسة على قواعد جديدة وتذهب بالمنطقة وجهة يمكن توقعها ولا يمكن حتى اللحظة بناء صورة واضحة لها.

إرهاصات لا تخطئها عين المراقب نعبر عنها بالقول “أن أحمد الشرع السوري يمحو جمال عبد الناصر المصري” من ذاكرة العرب، ولا نعني هنا الأشخاص بل نعني التصورات الإجمالية والأساليب والتكتيكات العملية.

نقدّر أن يكون للثورة السورية المنتصرة دور مفاعل تغيير وتأسيس لمرحلة طويلة ونتوقع بناء على مؤشرات أولية أن أثرها سيطول الفكر والسياسة ويعيد ترتيب مواقع القوة في المنطقة. ونعني خريطة النفوذ والمواقع وما يسمى الإقليم القائد للعرب. ولكن هذا التغيير لن يكون بالسرعة التي يرجوها المتواكلون على المعجزات. ولن يقبل به من حازوا مواقعهم بما سبق من فكر ومن تصورات ومن خرائط وأداور. لذلك ستكون هناك صراعات بين قديم يولي وجديد يؤسس وستستعمل فيه أسلحة قذرة.

منوال بناء السيادة بالقطيعة

جاء عبد الناصر من معركة التحرر من الاستعمار ودشن مرحلة بناء الدولة العربية الحديثة ووضع مشروعه في سياق الفكر القومي عامة وهو فكر سيادي يقدم ترسيخ الاستقلال ويؤجل ما سواه. لذلك بنى سياسات تسبق القطيعة على الخضوع للغرب وكان ذلك في حينه أمرا طبيعيا فقد ورث بلدا محتلا وعمل على تحريره من آثار الاستعمار ولذلك فكر في بناء استقلال بلده ووسع طموحه إلى أمته العربية غاية ووسيلة في ذات الوقت.

كانت أطروحات بناء القوة العسكرية والاقتصادية مهيمنة في الخمسينيات والستينيات. ومدرسة فك التبعية عن الغرب تقود النظريات الاقتصادية بتأثير من فرناندو كاردوزو البرازيلي وانزو فالتو الشيلي وصداهما المصري سمير أمين. لذلك بدت جملة تحقيق الثورة الصناعية جملة سحرية من أجلها توظف الإمكانات وتصاغ السياسات وتبنى التحالفات الخارجية.

عملت الناصرية (كتوجه فكري وسياسي) على بناء دولة صناعية حديثة بمؤسسات اقتصادية وخدمية عمومية، طمحت الناصرية كمنهج تفكير وعمل إلى قيادة كل العرب وقد تفشت أفكاره حتى في الأقطار التي اختلفت سياسيا مع الناصرية مثل تونس وحتى الصيغة البعثية من الفكر القومي ذهبت في نفس الاتجاه ونافست على الفكرة السيادية وكان من أثر هذا المنهج بناء علاقات متوترة مع الغرب الاستعماري والنظر إليه كعدو دائم خصوصا أن الحرب أعلنت ضد الكيان الصهيوني بصفته أداة استعمارية مزروعة لتوهين المنطقة وشعوبها ورهنها للاستعمار.

وكان وضع القضية الفلسطينية في مركز الفعل والقرار فقد استعمل لرسم حدود التحالفات العربية والغربية وأعلي خطاب الاستقلال بقطع النظر عن النتائج على الأرض. لذلك صنفت الناصرية الأنظمة السياسية العربية إلى قومي سيادي (استقلالي) في مقابل رجعي عميل. ومنذئذ يفكر العرب أحزابا ومثقفين بلوجسيال (منوال) الناصرية وإن لم ينتموا إلى أحزاب قومية. وكان التحالف مع المعسكر الاشتراكي الذي زعم مساندة حركات التحرر في العالم زمن الحرب الباردة هو الحليف الطبيعي الذي بحث عنه الفكر القومي والسياسيين القوميين واعتمدوا عليه.

في الطريق إلى السيادية وجدت الناصرية الفكرية والتطبيقية في الديمقراطية وصيغها التمثيلية دعاوى شق الصف الواحد الذي يمكن أن يتسلل منه الاستعمار لذلك قدمت الضبط العسكري والأمني على التفاهمات الديمقراطية في الداخل القطري وجرمت كل معارضة ليبرالية. حتى صار لفظ الليبرالية نفسه جريمة مرادفة للخيانة.

يوشك القرن أن يكتمل على لوجسيال الناصرية ولكنها لم تبن الأنظمة السيادية ولا الدول القوية اقتصاديا وانتهت إلى فضائح أخلاقية. لقد قتلت الأنظمة القومية من شعوبها أكثر مما قتل الاحتلال المباشر وسوريا نموذج يلخص كل الحالة العربية التي تشكلت تحت خطاب السيادة الذي وثَّن الحكام وامتهن الشعوب.

أحمد الشرع يحل على أنقاض بلد قومي.

من المبكر منح الزعامة لرجل لم يكمل سنة في الحكم. لكن حلوله على أنقاض بلد حطمه الفكر القومي (لا استجيب هنا لنقاش جانبي أغرقنا فيه القوميون عن تفاصيل الاختلافات بين الناصرية والبعث) ثم متابعة بدايات خطابه وتكتيكاته السياسية تؤشر على تأسيس منوال البراغماتية السياسية التي تقدم المنفعة على السيادة النظرية أو تبلغ السيادة بوسائل مختلفة عن العداء الجذري للغرب. وربما تقدم التعاون مع الغرب على القطيعة معه.

إنه اختلاف بين أسلوب إجمالي أو كلياني (Holiste ) وآخر إفرادي (Individualiste) أو اختلاف بين أسلوب الفكر السياسي لعصر الأنوار (وتأسيس الدولة القومية) وبين أسلوب التفكير الأمريكي التفاوضي. اختلاف بين الفلسفة الكلية وبين إدارة الشركة في السوق. اختلاف بين الماركسية وعلم اجتماع الأمريكي لتالكوت بارسونز. وسنقول على طريقة هشام جعيط اختلاف بين طوبى علي وواقعية معاوية. وربما نسند على فقه المصلحة “حيث ما ثمة مصلحة فثم شرع الله”.

من هنا نتوقع / نستشرف تغييرا عميقا سيقدم لسوريا أولا وربما للعرب لاحقا قيادة مختلفة. وسيواجه لزمن طويل تهم الخيانة من فلول منوال الناصرية والبعث. بمن فيهم جماعات من الإسلام السياسي تأثرت بالناصرية فكريا وإن كانت من ضحاياها في كل قطر.

الخلاف الذي برق فجأة بين الشرع ووالده بخصوص نموذج الدولة السورية القادمة يكشف المستقبل بدقة. فالأب يعيش بعد بمنوال الناصرية السيادي لذلك أعلن معارضته سريعا للتفويت في المؤسسات العمومية رمز السيادة والاستقلال بينما يبدو الابن متجها اتجاها مختلفا كليا ويفكر في تحرير السوق والمبادرة.

الأمر يتجاوز خلاف الابن مع أبيه ليدخل منطقة جديدة فهذا البرق الخاطف كشف أن الشرع التوجه -وإن لم يتجل لنا كاملا في هذا الزمن القصير- يظهر لنا أن الرجل (وحكومته) غير مشغول بخطاب السيادة بمعناه القومي (الناصري والبعثي) ويقوم أسلوبه وخاصة بعد لقائه مع ترمب على أن بناء القوة المفضية إلى السيادة يمر عبر بناء علاقات مختلفة مع الغرب تؤسس لليبرالية سياسية واقتصادية وتنفتح على الشركات والقوى الاقتصادية العالمية دون هواجس تسلل الاستعمار عبر شركاته. لنقل الدخول بسوريا في العولمة دون وجل.

بعض المؤشرات الدالة:

بنيت الدولة القومية العربية على خطاب معاداة التتريك فتركيا العثمانية كانت عدوا محتلا ورغم اختفائها من خريطة التأثير في المنطقة فإنها ظلت مصنفة في الأعداء ويطالبها القوميون بلواء الاسكندرون المحتل. وزاد العداء نتيجة علاقة تركيا الكمالية -رغم نهاية الكمالية- بالكيان الصهيوني. أما الشرع فيبدأ ببناء علاقة متميزة مع تركيا دون الانشغال بالوراء ودون المزايدة بالقطيعة مع العدو.

وهذه خريطة علاقات مختلفة أساسها الفائدة المباشرة من قوة الأتراك الجدد الذين صاروا فاعلا مؤثرا في المنطقة والعالم. (في سياق موسع يمكن اعتبار الأتراك الجدد مؤسسي البراغماتية السياسية في المنطقة) والشرع يتعلم في مدرستهم.

لم يدفع الشرع ثورته إلى تحرير أرض محتلة ونظنه وازن القوة المتاحة في اللحظة الثورية والمعيقات القائمة ففضل التريث أو تأجيل حرب تحرير الأرض وقدم تحرير الإنسان السوري من جوعه وتشرده التاريخي الذي مارسه النظام القومي (خطاب مقاومة الجوع في جامعة إدلب). ورغم الاستفزاز الصهيوني فأنه كضم وفوت المواجهة لوقت قد يختاره من موقع قوة ممكن في المستقبل. وهذه حسابات نفعية تقدم الممكن على المرغوب. ترافقه قدرة كبيرة على صم السمع على خطابات المزايدة القومية. حيث نسمع بقية اللوجسيال الناصري يشنع على الشرع فيتهمه بالخيانة والتطبيع وأنه صنيعة أمريكية درب للحكم في اتجاه خيانة القضية القومية.

لا ترد فلسطين على لسان الشرع كثيرا فهو متحفظ كأن أمر فلسطين لا يعنيه وقد بدرت منه حركات تفهم في هذا الاتجاه مثل موقفه من عناصر المقاومة المتخفين في دمشق وقبول تصنيفهم كمقاتلين أجانب على ذمة الترحيل.

وجب التذكير بأن الشرع ورث بلدا دمره حلف الممانعة باسم تحرير فلسطين وهو يتميز عن هذه الطريق التي هي نفس طريق الناصرية التي تبنت تحرير فلسطين ولم تفعل. الصمود والتصدي والممانعة ليست في لوجسيال الشرع. وهو لا يسمح لنا ببناء توقعات حول هذه المسألة لكننا نراه لا يمر من طريق الممانعة التي تحمل عار الكبتاغون وفي رصيدها مذابح مخيم اليرموك دون التوسع في بقية وقائع مطاردة المقاومة الفلسطينية في لبنان.

بناء السيادة بمنوال المصلحة

شيء ما يذكرنا في لحظة الكتابة بلوجسيال البورقيبية الذي قام ضد لوجسيال الناصرية رغم عداء الزعيمين أي صناعة القوة بالعلم والاقتصاد لتحقيق التحرر في القطر لمواجهة المعضلات القومية ومنها تحرير فلسطين. (يتذكر العرب جميعهم خطاب أريحا وقبول قرار التقسيم في زمن مبكر ويتذكرون المزايدات الناصرية عليه).

هذا المنهج المدموغ بالرجعية والخيانة من قبل الخطاب القومي يبدو لنا الآن في حالة انتعاش فهو الذي حول نفط الخليج المهدر إلى صناديق سيادية فعالة في اقتصاد العالم. يتوسلها الغرب. ويبدو لنا الشرع سائرا في هذا الخط باقترابه السريع من بلدان الخليج وتنسيق مواقفه السياسية معها. بما يشبه الانضمام إلى حلف اقتصادي وسياسي على أنقاض حلف طالما وصم هذه البلدان بالرجعية. لنسمه حلف البراغماتية العربية. وهنا قد يكون التحول الكبير.

سوريا الشرع فم مفتوح للاستثمار وهذه ورقة تفاوضية قوية تؤسس للاستثمار مقابل الاحترام وحفظ السيادة. إنها وضع أفضل من وضعية بلدان عربية احتاجت الاستثمار الغربي في وقت أزمات اقتصادية بنيوية فقبلت شروط الغرب بما في ذلك وضع الاستثمار مقابل التطبيع، كما في حالة المغرب وتونس ومصر والأردن. يتوقف الأمر هنا على القدرة التفاوضية من موقع معرفة قوة السوق السورية ووضعها في سياق بناء السيادة.

أمام سوريا الشرع نماذج الفشل العربي المبنية على خطاب سيادي مزيف وفاشل لم تربح منه الا الإذلال الغربي. شمل الفشل الاقتصاد والسياسة. الدولة العربية التي زعمت أنها اجتماعية انتهت إلى فضيحة مدوية. لقد كانت فكرة سياسية غير اجتماعية، بل وسيلة إخضاع مقابل الولاء للنظام فتولد منها الفشل الاقتصادي والاجتماعي الشامل.

يكفي أن ننظر في نسب الأمية المتفشية بعد أكثر من نصف قرن من المدرسة ومن الوضع الصحي المتردي في كل قطر. أما الفشل الاقتصادي فيمكن معاينته من موجات الهجرة السرية إلى الغرب وتحول بلدان عربية إلى حراس حدود للغرب مقابل مصروف بسيط.

استعادة نموذج الدولة الاجتماعية في سوريا بعقلية نظام البعث أو الاشتراكية العربية سيكون خيبة الثورة السورية فتجريب المجرب فشل آخر. نتوقع بناء على أدلة أولية أن مرحلة اقتصادية ليبرالية في سوريا ستبدأ بعقل السوق فتسهل الطريق للمستثمرين السوريين الخواص ولغير السوريين الذين يسيل لعابهم على غنيمة إعادة الإعمار بمن فيهم ترمب.

هذا تفاوض سيادي جديد ومختلف (سلامة البلد وقوة دولته بفتح السوق دون وضع شروط مسبقة من قبيل الاستثمار مقابل التطبيع). حيث تلعب قوة الشعب السوري المنتصر معنويا وسيلة دفع في هذا الاتجاه.

سيكون من شروط التدرج بسوريا نحو اقتصاد ليبرالي إحداث تغيير عميق يتجاوز وهم السيادية التي ضحت بالحريات ويؤسس الليبرالية السياسية أي الديمقراطية التمثيلية بسقوف حرية عالية لا تعتبر التحزب خيانة. وهنا يمكنه التميز الجذري عن لوجسيال السيادة الذي أنتج دمارا سياسيا وتصحرا فكريا ففشل السيادية المزيفة كان سبب ضعفها أمام الغرب الاستثماري/ الاستعماري، الذي يستقبل المعارض المضطهد في بلده ويبتز به نظام بلده القمعي فيخضع فيطبع ولا يتصالح مع شعبه ومعارضيه.

لا نذكر الشرع لأننا نظنه يعي أن سوريا المتعددة لا يمكن حكمها بقمع طرف منها وتبجيل آخر وهذه تجربة يذكرها السوريون ويرفضونها ولن يتسامحوا في عودتها. إن الحرية قوة للدولة وهذا درس متاح من فشل لوجسيال السيادة.

عناصر قوة محلية

يملك الشرع ثروات طبيعية مغرية يقايض بها سلامة بلاده (بتوريط) الاستثمار الخارجي الذي سيكون أحرص على أمن سوريا من السوري نفسه. إن الأمن حاجة استثمارية غربية أيضا وكان هذا في السابق يسمى خيانة لكن الشرع يمكن أن يسميه الانفتاح. ولفظ الانفتاح يذكر بالسادات الذي حاول محو الناصرية لكنه دخل على الليبرالية من باب التطبيع لا من باب الديمقراطية فسلم قياده للعدو وفشل انفتاحه وسقطت ليبراليته في الفشل. بينما جاء الشرع في زمن تهشمت فيه قوة العدو بفعل حرب الطوفان فوفرت للشرع فرصة أن يبني تجربته دون الحاجة إلى التطبيع. يمكنه أن يستفيد من أثر الطوفان فيفتح بابا لاستثمار لا يمر بتل أبيب. ولا يضعه أمام شرط “القرض مقابل التطبيع”.

إلى ذلك يملك الشرع قوة مقاتلة منظمة خاضت معارك وانتصرت وهذه القوة تستند إلى أغلبية من الشعب السوري سنية الهوى فهو أغلبي مطمئن إلى نتيجة الصندوق الانتخابي بما يسمح له بالإقدام والجرأة في القرار خصوصا أن الشهور الأولى لحكمه كشفت هشاشة بقية الطوائف وتورط بعضها في خيانات مكشوفة منحت السنة وسام وطنية لم يسعوا إليه ولكنه جاءهم هدية فزاد في قوة الرئيس السني.

 

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان