الملجأ للمواطن والمخبأ للخسائر.. إسرائيل واستراتيجية التكتم

التكتم على الخسائر صار أسلوبا إسرائيليا معتمدا (غيتي)

من الطبيعي أن تتكتم الدول على بعض خسائرها أثناء الحروب، ولكن ما تفعله إسرائيل منذ بداية حرب “طوفان الأقصى” هو أمر غير طبيعي بالمرة، فقد فاقت استراتيجية التكتم على الخسائر التي تنتهجها إسرائيل (عبر الحظر والرقابة المشددة على نشر أي معلومات تتعلق بالخسائر) كل الحدود والتصورات.

صحيح أن الهدف من التعتيم كآلية هو الحفاظ على الروح المعنوية للجنود والمدنيين، وتقليل تأثير الأخبار السلبية في المجتمع، والهدف منها كاستراتيجية هو إخفاء المعلومات عن العدو لحماية الخطط والتكتيكات، وتجنب الظهور بأي مظهر من مظاهر الضعف، ومحاولة الحفاظ على صورة الدولة القوية التي لا تُقهر في مواجهة أعدائها، مع تجنب أي ضغوط داخلية أو خارجية من الممكن أن تنتج عن الاعتراف بحجم الخسائر الحقيقي، وهو ما يؤثر على الموقف التفاوضي في النهاية.

ولكن، على العكس من ذلك، يبقى أن المبالغة والإفراط في إخفاء الخسائر بدعوى الحفاظ على الأمن القومي، هو بمثابة دفن سياسي للحقيقة المؤلمة التي يجب أن تتحمل مسؤوليتها الأنظمة أمام شعوبها وأمام العالم وأمام التاريخ. وفي الوقت نفسه، يعيق هذا التعتيم المتطرف الرؤية والحكم عند باقي صناع القرار، سواء في الداخل أو في المحيط الإقليمي والعالمي. ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى خلل في كفاءة الحكم لدى معظم المهتمين والمتابعين، سواء الشعوب أو المؤسسات أو وسائل الإعلام.

فخ الإفراط والمبالغة

“الإفراط في الشيء يفقد قيمته”، ولا يختلف أحد على أن الكيان الإسرائيلي قد وقع في فخ الإفراط والمبالغة في استخدام استراتيجية التكتم على الخسائر، إلى الحد الذي فقدت معه تأثيرها المأمول. فحتى مع الأحداث والمعارك الكبرى، كانت الفجوة بين الخسائر المُعلَنة والحقيقة واسعة ومستخفة ومستفزة، إلى الدرجة التي أفقدت فيها استراتيجية التعتيم والتخفيف من الآثار أهميتها، لأن استمرار غياب المصداقية عند المتلقي يجعله في شك دائم تجاه كل المعلومات التي تصل إليه من ذلك المصدر المحتال المستخف، ومن الطبيعي أن يؤثر هذا سلبا في صورة الدولة وثقة المواطن بها.

وفي هذا الإطار، تظل الرقابة العسكرية طوال السنوات السابقة هاجسا يلاحق كل ما له علاقة بالإعلام والصحافة والنشر، حتى في الأوقات التي لم تشهد مواجهات مباشرة.

وقد صدر العديد من الكتب التي تنتقد ممارسات الرقابة العسكرية وتأثيرها في حرية الصحافة، ومنها كتاب “الرقابة والأسرار العسكرية الإسرائيلية في العصر الرقمي” الذي يطرح تزايد الحديث في إسرائيل عن جدوى استمرار وجود الرقابة العسكرية، التي يفرضها الكيان على وسائل الإعلام بحجج أمنية متنوعة. وقد استعرض مؤلفا الكتاب، الذي صدر بالعبرية عام 2016، وهما الدكتورة هيلا التشولر والدكتور جيا لوريا، قضية رجل الموساد بن زيجيير، الذي انتحر في سجنه على خلفية نشره معلومات وُصفت بأنها سرية.

كما استعرض الكتاب الأوامر القانونية التي تمنع نشر المعلومات ذات الصلة بالقضايا الأمنية، وقارن بين “إسرائيل” ودول أخرى فيما يخص هيمنة الرقابة العسكرية على ما يخص الصحافة والنشر والتعبير، كما قدَّم توصيات لوقف الرقابة العسكرية في العصر الرقمي.

قانون جديد.. ومنع قديم

المدهش أن الحكومة الإسرائيلية لم تكتفِ بكل الموروث والممارَس من إجراءات التكتم والتعتيم والإخفاء للخسائر، فإذا بها تسن منذ أيام -عبر الكنيست- قانونا إسرائيليا جديدا يفرض قيودا صارمة أخرى على الإعلام في زمن الحرب، سواء في التصوير أو النشر، بدعوى الحفاظ على الأمن ومنع تسريب معلومات قد تستخدمها أطراف معادية. وقد اعتُمد القانون بعد انتشار مقاطع مصورة توثق لحظات سقوط الصواريخ ومحاولات اعتراضها، وهو ما اعتبرته السلطات الأمنية تهديدا محتملا للأمن القومي.

اللافت في الأمر أيضا أن القانون، الذي يفرض عقوبات بالسجن تتراوح بين 20 و30 شهرا على من يخالف أحكامه، قد صدر بتأييد واسع من أعضاء الائتلاف الحاكم والمعارضة.

وهذا القانون الجديد يحظر أشياء هي في الأساس محظورة منذ عقود، ويتم التنبيه عليها ليل نهار في وسائل الإعلام، ومنها حظر تصوير عمليات القصف أو اعتراض الصواريخ، ومنع نشر الصور أو مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى تقييد عمل وسائل الإعلام الأجنبية التي تُعَد “معادية” وفق تصنيف الجهات الرسمية، خلال أوقات الحرب.

الجذور التاريخية

عادة ما تكون القرارات العسكرية والسياسية مستندة إلى مجموعة من العوامل التاريخية والجغرافية والاجتماعية. فهل هناك علاقة بين عقلية الجيتو اليهودي -الذي عاش في وجدان اليهود كما عاشوا فيه لمئات السنين في العديد من دول العالم، حيث المجتمعات المغلقة- وهذا الاستغراق في استراتيجيات التعتيم والتكتم؟! الأمر يحتاج إلى دراسات عميقة. فعقلية “الجيتو” ترتبط بالشعور بالانفصال عن المجتمع الأوسع، مع تكوين ثقافة فرعية خاصة، وتبنّي أساليب حياة وأولويات مختلفة، مع تطوير هوية جماعية قوية معزولة عن الآخرين. الخلاصة أن تلك المجتمعات المغلقة، سواء كانت تاريخية أو معاصرة، قد اعتادت أن تطور ثقافات وقيما تؤثر في كيفية التعامل مع المعلومات والشفافية، بدعوى أن هناك تركيزا على حماية المجتمع من التهديدات الخارجية، وهو ما قد يعزز استراتيجيات التكتم. وإذا كان ما سبق من تصور صحيحا، فهذا يعني أن اليهودي الفقير، وإن كان قد غادر “الجيتو” منذ عقود، فإن عقلية “الجيتو” لم تغادره بعد.

الفجوة الكبيرة

لقد انتبه معظم القادة والخبراء والمؤرخين العسكريين إلى الفجوة الكبيرة بين الأرقام الرسمية الإسرائيلية المعلَنة والخسائر الحقيقية التي حدثت على الأرض في جميع الحروب الإسرائيلية، بداية من حرب 1948، ومرورا بحرب 1967، وحتى حرب أكتوبر 1973، وما بعدها من حروب. ولقد أشار الأمين العام الأسبق لحزب الله، السيد حسن نصرالله، في أكثر من خطاب، إلى تكتم إسرائيل بشدة على خسائرها المادية والبشرية في الحروب، كما أشار إلى أن ذلك هو جزء من حرب إسرائيل الإعلامية.

ولا يشهد بذلك فقط أعداء إسرائيل، بل أبناؤها أيضا، وتذخر كتب ومذكرات القادة الإسرائيليين بالاعترافات التي تؤكد الأمر. ومن تلك الاعترافات ما ذكره المؤرخ الصهيوني بيني موريس في كتاب “حرب 1948: تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى”، حيث قال: إن إسرائيل قللت من حجم خسائرها في الحرب حتى تحافظ على الروح المعنوية. ويشير المؤرخ في الكتاب نفسه إلى أن التعتيم لم يقتصر على خسائر الجيش الإسرائيلي، ولكنه امتد ليشمل المجازر التي ارتُكبت في حق العرب.

كما يضيف موريس في مواضع أخرى “إن التاريخ الصهيوني الذي تمت روايته لنا طوال عشرات السنين، هو تاريخ غير صحيح وغير دقيق، به أجزاء صحيحة، ولكن الأجزاء المظلمة والحساسة هي التي كانت غير صحيحة”.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان