هل تحطمت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي بعد الحرب مع إيران؟

نظرية الأمن الإسرائيلي ماذا تبقى منها؟ (غيتي)

لم تكن الحرب الإسرائيلية-الإيرانية، التي بدأت في 13 يونيو/حزيران 2025، وانتهت بوقف هش لإطلاق النار في اليوم الثاني عشر، مجرد صراع عسكري، بل كانت اختبارا وجوديا حقيقيا لما تُسمى “نظرية الأمن القومي الإسرائيلي”، كما صاغها بن غوريون، التي بُنيت عليها دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيسها عام 1948.

هذه الحرب التي بدأتها إسرائيل بالاعتداء على إيران، لم تكشف حدود القوة العسكرية الإسرائيلية فحسب، بل سلطت الضوء على هشاشة المشروع الصهيوني.

خلال هذه الحرب، خضعت كل عناصر العقيدة الأمنية الإسرائيلية للاختبار، مما يطرح سؤالا مهمّا ومفصليا: هل لا تزال نظرية الأمن القومي الإسرائيلي صالحة؟ أم أنها انكسرت تحت وطأة المواجهة المباشرة مع إيران، وتآكلت معها أسس المشروع الصهيوني في المنطقة؟

في هذا المقال، سوف نحاول الإجابة عن هذا السؤال عبر قراءة في ضوء الحرب الإسرائيلية المباشرة مع إيران، التي كشفت عن أزمة بنيوية في “نظرية الأمن القومي الإسرائيلي”.

أسس نظرية الأمن القومي الإسرائيلي وتناقضاتها

منذ نشأتها، اعتمدت دولة الاحتلال الإسرائيلي على نظرية أمنية ذات طبيعة مركبة، تستند إلى عدة عناصر متشابكة:

أولا: الردع الاستباقي: تقوم العقيدة الأمنية الإسرائيلية على مبدأ توجيه ضربات وقائية تمنع التهديد قبل وقوعه، وإبقاء الخصم في موقع دفاعي دائما وتخويفه بالقوة الهائلة، كما ظهر جليا في حرب يونيو عام 1967.

ثانيا: الإنذار المبكر: يشكل أحد الأعمدة الحيوية في النظرية الأمنية الإسرائيلية، إذ تهدف إسرائيل إلى رصد التهديدات قبل وقوعها، وقد تطور الإنذار المبكر، خاصة بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

ثالثا: الحسم السريع: يشكل هذا المبدأ ضرورة وجودية لإسرائيل، لتجنب الاستنزاف والانكشاف الاستراتيجي، حيث إن الحروب الطويلة الأمد تهدد أمنها الداخلي، وتعرّض اقتصادها والمجتمع الإسرائيلي لضغوط متزايدة.

رابعا: نقل المعركة إلى أراضي الخصوم: ويهدف ذلك إلى خوض الحرب بعيدا عن الجبهة الداخلية، حتى لا تتعرض للاستنزاف.

خامسا: الاعتماد على التفوق النوعي: تولي دولة الاحتلال الإسرائيلي اهتماما بالغا بالتفوق التكنولوجي والاستخباري والعسكري.

سادسا: الاستفادة من الدعم الغربي: يشكل الدعم السياسي والعسكري الغربي، لا سيما من الولايات المتحدة، ركيزة استراتيجية في تعزيز قدرة إسرائيل، حيث يضمن لها مظلة حماية عسكرية ودبلوماسية.

سابعا: تعزيز الشعور بالأمن والرفاهية لدى المستوطنين: تحرص دولة الاحتلال الإسرائيلي على تصدير صورة الدولة المستقرة والآمنة لاجتذاب أكبر عدد من المهاجرين اليهود من الخارج، وترسيخ فكرة “أرض الميعاد” كبيئة آمنة ومستقرة.

لكن هذه النظرية لطالما كانت قائمة على تناقض داخلي، فهي تحتوي في جوهرها على مفارقة بنيوية، حيث إن إسرائيل دولة صغيرة، تفتقد إلى العمق الجغرافي، وتوجد في محيط مُعادٍ. ولذلك لا يمكنها خوض حروب طويلة الأمد، وتحتاج إلى نصر حاسم وسريع في مواجهاتها العسكرية.

انكشاف العقيدة الأمنية الإسرائيلية

لقد أدت الحرب الإسرائيلية-الإيرانية إلى انكشاف العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وأبرز ما في هذا الانكشاف هو تعرُّض مفهوم الردع الإسرائيلي إلى تآكل حاد، والذي طالما اعتمد على التفوق التقني والتكتيكي.

لقد استطاعت إيران خلال هذه الحرب أن تكسر الامتياز الإسرائيلي في الحرب، حيث جاء رد طهران سريعا وقويا ومباشرا وعلنيا عبر صواريخ ومسيَّرات استهدفت تل أبيب ومواقع حساسة في الداخل الإسرائيلي، وكسرت إيران القاعدة التي حافظت عليها تل أبيب: أن تهاجم دون رد عليها، وتفلت من العقاب. وهنا فإن إسرائيل أمام معادلة لم تعتد عليها، حيث انتقلت إلى مرحلة لا تستطيع فيها أن تضرب من دون أن تُضرَب.

وعبر هذا الرد القوي والمكافئ للعدوان الإسرائيلي، أوصلت إيران رسالة مزدوجة: القدرة على الردع، وتكافؤ الخسائر.

فشل الإنذار المبكر وغياب الحسم

يمكن القول إن حرب يونيو 2025 بين إسرائيل وإيران قد فككت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي على أرض الواقع.

خلافا لفشل الردع، فقد فشل الإنذار المبكر، حيث لم تتمكن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية من التنبؤ بحجم الرد الإيراني. كما أن منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي لم تفلح في مواجهة كل المسيَّرات والصواريخ الإيرانية التي ضرب العديد منها أماكن حيوية في عمق الداخل الإسرائيلي، ولولا المساعدات الأمريكية والبريطانية ومن دول أخرى في التصدي، لتضاعفت أضرار تل أبيب أكثر بكثير مما تعرضت له.

من ناحية أخرى، شهدت هذه الحرب غياب مبدأ الحسم، حيث لم تتمكن إسرائيل من شل قدرة إيران على الرد، بل استمرت الهجمات حتى آخر يوم في الحرب.

وبعكس ما تقوم عليه العقيدة الأمنية الإسرائيلية، فقد جرت المعركة داخل العمق الإسرائيلي، وطالت الكثير من الأماكن الحيوية والحساسة. وقد أصيبت دولة الاحتلال الإسرائيلي بحالة من الشلل المدني والاقتصادي المؤقت، وانهار الشعور بالحصانة لدى الداخل الإسرائيلي، وهو عنصر أساسي لطالما اعتُمد عليه في إظهار قوة الدولة. كل ذلك يضرب في الصميم الفكرة التي سُوقت للمستوطنين بأن إسرائيل هي الملاذ الآمن لليهود، وهو ما يعني أزمة وجودية للمشروع الصهيوني.

لقد أظهرت الحرب الإسرائيلية-الإيرانية أن الجبهة الداخلية الإسرائيلية هي “كعب أخيل” الحقيقي، حيث نزح عشرات الآلاف من المستوطنين داخليا أو غادروا إلى الخارج مؤقتا، وهو ما يؤكد أن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا جيشا رديفا، بل مجرد سكان مشروطين بالأمن والرفاه.

التفوق الإسرائيلي ليس ذاتيا!

أكدت الحرب الإسرائيلية-الإيرانية حقيقة أن إسرائيل لا تملك اكتفاء استراتيجيا ذاتيا، وأن تفوقها العسكري يعتمد على الدعم الغربي النوعي، وخاصة الأمريكي، تسليحا وتقنية وتدريبا واستخبارات، وغطاء نووي غير معلن، يحظى بغض طرف وتسامح غربي، إلى جانب الدعم السياسي والإعلامي.

في الحرب الأخيرة، لو لم تتدخل أمريكا بقصف المنشآت النووية الإيرانية، لكانت إسرائيل قد دخلت مأزقا استراتيجيا لا خروج منه دون تصعيد شامل، وهو ما يؤكد حقيقة فقدان إسرائيل للاكتفاء الاستراتيجي الذاتي.

ولكن مفارقة كبرى كشفتها الحرب، وهي التحكم الأمريكي، فتدخل واشنطن لم يكن لتعزيز موقف إسرائيل بشكل مطلق بقدر ما كان ضبطا لإيقاع الحرب، حيث منعت تل أبيب من التمادي في الضربات، وتوسعة الحرب، وفرضت الإدارة الأمريكية وقف إطلاق النار بتوافقات غير معلنة، وهو ما يعني أن القرار في واشنطن وليس في تل أبيب. يؤكد هذا على فكرة مركزية، هي أن إسرائيل في بعدها الاستراتيجي لا تستطيع اتخاذ قرارات أمن قومي كدولة مستقلة بالكامل.

إن التفوق الإسرائيلي يتطلب دائما دعما غربيا، وخاصة الدعم الأمريكي، عسكريا وسياسيا وتكنولوجيا واستخباراتيا. وعليه، فإن الاعتماد على أمريكا يُعَد جزءا من مكونات الأمن القومي الإسرائيلي، وهو ما يقود إلى خلاصة مفادها أن إسرائيل لا يمكنها أن تحارب وحدها.

ختاما

إن وجهة النظر التي يمكن أن نخلص إليها هي أن الحرب الإسرائيلية-الإيرانية، وإن لم تُسقط نظرية الأمن القومي الإسرائيلي بالكامل، فإنها أدت إلى انكسارها في جوهرها، ومزقت بالتبعية قناعات كانت مستقرة لعقود، وتغيرت المعادلة من “الضربة بلا عقاب” إلى “الضربة مع ثمن”، ومن “الردع الكامل” إلى “الردع المتبادل”. والأهم من ذلك أنها كشفت اعتماد إسرائيل في بقائها على الدعم الغربي، وخصوصا الأمريكي. ما سبق يطرح سؤالا جوهريا بشأن الاستمرار والزوال.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان