دماء العراقيين لا تسقط بالتقادم.. أين حق الضحايا؟

من أرشيف الغزو الأمريكي للعراق (غيتي)

العراق ما زال جرحًا مفتوحًا في جسد النظام الدولي. منذ أن اجتاحت الدبابات الأمريكية-البريطانية بغداد فجر التاسع عشر من مارس/آذار 2003، لم يستطع أحد أن يكتب على صفحة هذا البلد كلمة (انتهت الحرب). وبقي سؤال العدالة بلا إجابة. لقد قامت الحرب خارج الشرعية الدولية، ثم اعترف صُنّاعها بأنهم بنوا قرارهم على معلومات مضللة. ومع ذلك، ظل العراق هو الوحيد الذي يدفع الفاتورة.

وقبل أن تُطلق رصاصة واحدة، كان العراق قد ذاق حصارًا دام ثلاثة عشر عامًا تقاسمت فيه الأمم المتحدة مع واشنطن صيغة برنامج “النفط مقابل الغذاء”. الحصار الذي أُعلن أنه يستهدف النظام، أصاب أطفال العراق بسوء تغذية رهيب، ورفع معدلات وفيات الرضع إلى مستويات أعلنتها اليونيسف كارثية. وكوارث أخرى لا يستوعبها المقال، هذا السياق مهّد الرأي العام العالمي لاعتبار العراق حالة استثنائية تحتاج إلى حل استثنائي.

بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، تحوّل مسار الحرب على الإرهاب إلى بوابة أدخلوا من خلالها العراق إلى قائمة الأهداف رغم عدم وجود صلة موضوعية بين بغداد وتنظيم القاعدة. كانت الإدارة الأمريكية تبحث عن عدو سهل يثبت قدرتها الردعية، فوجدت في العراق ضالتها، دولة متعبة من الحصار، معزولة عربيًا ودوليًا، وقابلة للتسويق في الإعلام كخطر داهم. وهكذا صاغت واشنطن ولندن قضية أسلحة الدمار الشامل، مسلحين بتقارير استخبارية مجتزأة، وصور أقمار صناعية مضللة، وشهادات منشقين جرى الترويج لها دون تحقق جدّي. النص الأصلي لكلمة بوش عشية الغزو تضمّن عبارة (التهديد في غاية الوضوح)، بينما كانت وكالة الطاقة الذرية تقدّم تقارير تشكك في كل المزاعم حول برنامج يورانيوم نشط. في تلك اللحظة، تلاقت هندسة الخوف مع إرادة الحرب.

الاعتراف الصريح.. بلسان الجناة

كان أول الخيط اعترافًا علنيًّا من أعلى الهرم. في مذكراته (نقاط الحسم) كتب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن: “لو كنت أعلم بعدم وجود أسلحة دمار شامل لما أرسلتُ الجنود إلى العراق”. هذه الجملة المفردة تقوّض كامل الذريعة التي طُرحت أمام الكونغرس والرأي العام والعالم. لكنها جاءت ملحقة بعبارة دفاعية مفادها أن “العراق من دون صدام حسين أفضل”، أي أن الرئيس يحاول تسييج الخطأ في إطار معلوماتي لا أخلاقي ولا قانوني. أما كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي الذي وقف أمام مجلس الأمن رافعًا قارورة صغيرة قال إنها نموذج لسمّ الجمرة الخبيثة العراقي، فقد صرّح عام 2005 لقناة (ABC) بأن ذلك الخطاب “لطّخ سمعتي إلى الأبد”. وأقرّ باول بأن أجهزة الاستخبارات الأمريكية زوّدته بمعلومات غير دقيقة، واستغلت حماسته العسكرية لترويج حرب جرى الإعداد لها مسبقًا.

وفي لندن، استغرقت لجنة شيلكوت سبع سنوات تفتش في الأرشيف وتستجوب الشهود حتى أعلنت في 2016 أن “العراق لم يكن تهديدًا وشيكًا، وأن المعلومات الاستخباراتية كانت معيبة، وأن الخيارات السلمية لم تُمنح فرصتها”. وقف توني بلير أمام الكاميرات، ليقول: “أتحمل كامل المسؤولية وأعتذر”، لكنه أردف: “اتخذت القرار بحسن نية”. ولم يكن التضليل وليد فراغ، فقد كشفت (مذكرة داونينغ ستريت) المسربة عام 2005 أن الحقائق جرى صبّها لتوافق السياسة، أي أن البيت الأبيض سعى إلى ليّ المعلومات لضمان نتيجة واحدة هي الحرب.

لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ لاحقًا أدانت وكالة المخابرات المركزية لتضخيمها خطر أنابيب الألمنيوم وتحريف قصة (اليورانيوم النيجري). حتى بعد سقوط بغداد وافتضاح عدم وجود مختبرات أسلحة بيولوجية تحت الأرض، اكتفت الإدارة الأمريكية بتشكيل مجموعة البحث عن العراق برئاسة ديفيد كاي، التي انتهت إلى لا شيء. وفي 2006 قال كاي أمام الكونغرس: “لقد كنّا مخطئين جميعًا”. مع ذلك، لم تُسحب أي شرعية من قرار استخدام القوة، ولم تُبطل أي اتفاقيات موقعة في ظل الاحتلال. إن هذا التسلسل يدعم فكرة أن الاعتراف لا يعادل الاعتذار القانوني، وأن الندم السياسي يظل بلا قيمة إن لم يتحوّل إلى التزام بالتعويض.

القانون الدولي وحق العراق في التعويض

الميثاق الأممي واضح: المادة الثانية، الفقرة الرابعة، تحظر التهديد أو استعمال القوة ضد سلامة أراضي أي دولة. غزو 2003 لم يحصل على تفويض مجلس الأمن، ولم يكن ردًّا على عدوان عراقي، ولم تثبُت ذريعة الخطر العاجل. الأمين العام الراحل كوفي عنان قالها صريحة عام 2004: “من منظور الميثاق.. الحرب غير قانونية”. ومع ذلك، صُممت العملية السياسية العراقية بحيث يظل هذا التوصيف خارج الخطاب الرسمي في بغداد. اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعام 2008 بين واشنطن والحكومة العراقية تبنّت صياغة (شراكة طويلة الأمد)، وتجاهلت الحديث عن المسؤولية التاريخية.

اليوم، إذا أرادت بغداد فتح الملف فإن سلاحها الأول هو الاعترافات المنشورة، وهي بمثابة قرائن قضائية. يمكن إنشاء لجنة وطنية تجمع الأدلة المادية: أرقام الضحايا المدنيين، الخسائر الاقتصادية التي تجاوزت ستمئة مليار دولار وفق تقديرات البنك الدولي، وثائق تدمير البنى التحتية، وشهادات الانتهاكات التي وثّقتها منظمات مثل (هيومن رايتس ووتش وأطباء بلا حدود).

من الناحية القانونية، يذكّر متخصصو القانون الدولي بأن لجنة القانون الدولي أقرت منذ 2001 مسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة، وتنص المادة 31 على أن الدولة المسؤولة ملزمة بجبر الضرر ماديًا ومعنويًا. في حالة غزو العراق، الضرر قابل للقياس: تقرير جامعة براون ضمن مشروع تكلفة الحرب قدّر الوفيات بنحو 650 ألفًا حتى 2011، وتكاليف إعادة الإعمار بأكثر من تريليون دولار. سابقة مجلس التعويضات الأممية التي أنشئت بعد غزو العراق للكويت 1990 تقدم نموذجًا عمليًا: استُقطعت نسبة من عائدات النفط العراقي لدفع 52.4 مليار دولار تعويضات لدولة الكويت وشركاتها. إذاً، ثمة آلية أممية جاهزة يمكن أن تعكس اتجاه السداد هذه المرة من الدول المعتدية إلى الضحية.

المسار القضائي قد يمر بمحكمة العدل الدولية، وهو يحتاج قبول الخصم، ولكن حتى وإن رفضت واشنطن، فإن مجرد رفع الدعوى يحول الاعتراف إلى قضية دولية. البديل هو القضاء المدني في بريطانيا، حيث أحكام سابقة مثل قضية «ماوماو» ضد الحكومة البريطانية حول جرائم كينيا أثبتت قابلية المحاكم الوطنية لإنصاف ضحايا الاستعمار بعد عقود. ويمكن للعراق أن يلجأ أيضًا إلى التحكيم الاستثماري (ICSID) لطلب تعويضات عن أصول مدمرة لشركات وطنية. أما خيار المحكمة الجنائية الدولية الخاصة فيمكن استلهامه من نموذج كمبوديا المختلط، شرط أن تتبنى بغداد تشريعًا يسمح بولادة محكمة وطنيّة-دوليّة تختص بجريمة العدوان سنة 2003.

دروس من تجارب عالمية

التاريخ يقدم نماذج حيّة على أن المطالبة بالحق لا تموت مع السنين. كوريا الجنوبية انتظرت خمسة عقود قبل أن تنتزع اعتذارًا وتعويضًا من طوكيو لضحايا نساء المتعة، (مليار ين) لم يشف الجرح لكنه كسر إنكار اليابان. الجزائر ظلّت ستين عامًا تطالب باريس بالاعتراف بجرائم الاستعمار، وحصلت على بادرة رمزية بإعادة جماجم المقاومين. اليونان، بعد أكثر من سبعين سنة، رفعت سقف مطالبتها لألمانيا بـ 290 مليار يورو تعويضًا عن الاحتلال النازي. ألمانيا نفسها دفعت منذ الخمسينيات أكثر من سبعين مليار دولار لضحايا الهولوكوست، وما تزال تدفع. كما أن ضحايا العامل البرتقالي في فيتنام ما زالوا يطرقون أبواب المحاكم الأمريكية، وقد حصل بعضهم على تعويضات محدودة عبر محاكم ولاية نيوجيرسي. إضافة إلى ذلك، يقدّم برنامج تعويضات 9/11 مثالًا يُقرّ بالعلاقة السببية بين قرار حكومي وخسائر مدنية ويخصّص صندوقًا اتحاديًا للجبر. بينما في العراق، ورغم اعتراف كبار المسؤولين الأمريكيين – من الرئيس جورج بوش إلى وزير الخارجية كولن باول – بأن غزو 2003 كان مبنيًا على معلومات خاطئة ومضلّلة، لم يُنشأ حتى اليوم أي صندوق مماثل لتعويض الضحايا المدنيين، أو المتضررين من البنى التحتية المنهارة، أو حتى من ذوي الضحايا في الحروب الأهلية التي أعقبت الغزو. وهذا يُعدّ إخلالًا واضحًا ليس فقط بالمسؤولية الأخلاقية، بل بمبدأ قانوني راسخ في القانون الدولي، إذ تُلزم قوانين الاحتلال – بموجب اتفاقيات لاهاي 1907 واتفاقية جنيف الرابعة 1949 – الدولة القائمة بالاحتلال على تعويض الدولة المحتلة، متى ما ثبت أن الاحتلال ألحق بها أضرارًا جسيمة في الأرواح أو الممتلكات أو السيادة.

دروس هذه القضايا أربعة: أولًا، الجرائم غير قابلة للتقادم الأخلاقي، حتى لو تعذّر التقاضي القانوني المباشر. ثانيًا، الاعتراف السياسي يسبق أحيانًا التعويض المادي ويؤسس له. ثالثًا، المثابرة الشعبية والقانونية قادرة على تحريك الحكومات بعد جمود طويل. رابعًا، أي دولة تطالب بحقها تحتاج خطابًا موحدًا، ولا سيما أمام عالم تحدد فيه القوة من يُسمَع صوته.

الحاجة إلى عدالة وطنية

العراق لا يحتاج فقط إلى الكهرباء والماء والسيطرة على الموازنة؛ بل يحتاج إلى عدالة وطنية تُعيد الاعتبار لملايين الضحايا. مطلوب اليوم لجنة وطنية مستقلة توثّق الجريمة، وتحرك دبلوماسي يفتح الملف في المحافل الدولية، وخطاب رسمي يُدين الغزو بوصفه جريمة عدوان، ورفع دعوى قانونية ولو رمزية باسم العراق أو ضحاياه، وحملة إعلامية-حقوقية- قانونية تشعل الذاكرة العالمية. العدالة المتأخرة خير من اللاعدالة، فليس من العدل أن يبقى عراق اليوم خارج منظومة الجبر. فالأجيال الجديدة التي لم تعش عهد الحصار ولا يوم دخول الدبابة الأولى، ولكنها تسأل سؤالًا بسيطًا: أين المحكمة؟

فتح هذا الملف لا يهدف إلى اجترار الماضي، بل إلى تصحيح اختلال حاضر ينعكس على كل معادلات الشرق الأوسط. العراق الذي لا يملك حق مساءلة من دمّره، لن يملك حق مساءلة من ينهبه اليوم، ولن يملك قوة ردع تمنع مغامرًا جديدًا غدًا. المطالبة بالتعويض ليست نرجسية وطنية، بل ركيزة لأمن إقليمي ودولي. لا أحد يملك رفاهية نسيان الغزو، فالفوضى التي يعيشها العراق اليوم، من الفساد إلى المليشيات إلى الانقسام المجتمعي، كلها أبناء غير شرعيين لحرب 2003.

الصمت الرسمي لا يقتل القضية لكنه يؤجلها. وعندما تتراكم القضايا المؤجلة تتحول إلى تاريخ مشوّه يُكتب بأقلام الغزاة وأذنابهم. في كل مرة يُقال إن المطالبة متأخرة، تذكّر كوريا والجزائر واليونان واليابان؛ تذكّر أن العدالة تتعثر لكنها لا تموت. العراق يحتاج إلى إعادة كتابة عقده الاجتماعي على قاعدة الكرامة، ولا كرامة بلا اعتراف وتعويض. فتح ملف الغزو ليس مجرد عودة إلى الماضي، بل هو تأسيس لمستقبل يتعلم من الخطأ، ويُلزم العالم بمعيار واحد: لا جريمة بلا عقاب، ولا اعتراف بلا جبر ضرر.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان