إرهاصات التغيير في المنطقة العربية

نستشعر أمرا عظيما يتهيأ في المنطقة العربية ولا نجد له اسما دقيقا وقابلا للبقاء ولكن الحركة السارية فوق الأرض العربية وتحتها لا يمكن إغفالها. شيء ما ينبئ بتحولات عميقة أو إرهاصات لعصر عربي جديد ومختلف. نجمع المؤشرات فنجد روح الربيع العربي تختمر تحت الأرض وقد دلتنا عليها قافلة التضامن مع غزة ودلنا عليها ردها من منتصف الطريق. بما عمّق الفرز ودلنا عليها التحول العميق الجاري في سوريا والصراع الدائر في (العقل) السوري حول الموقف القومي للنظام. ودلنا عليها صمود غزة في وجه آلة المحق الصهيونية وهي تتهيأ لاستسلام، ونضيف إلى ذلك دلالات الحرب على إيران ونتائجها المؤقتة الظاهرة في نصر غير مكتمل ولكن في تحصيل منعة من غزو ثان يبين عجز الغازي عن معاودة الغزو وهو نصر لصاحب الأرض. لكن رغم المؤشرات فإن الصورة لا تفصح بما فيه الكفاية عما يكون في المدى القريب والمتوسط. سنحاول نسج خيوط بين المؤشرات المتزامنة لعل القصة تتخذ لها مضمونا كاشفا.
الربيع العربي غربال صدق
كان الربيع العربي مشروع حريات وديمقراطية خلف -على قصر التجربة- فرزا عميقا بين الساعين فعلا إلى ترسيخ الحريات وبين المعادين لها. وقد كشفت الردة عن الربيع بالخصوص الطبيعة الانقلابية لنخب اليسار والقوميين وكثير من الليبراليين المزعومين. لقد اتضح موقف هذه النخب فاذا هي جزء من الأنظمة الانقلابية المعادية للحريات والتي لا تتورع عن خدمة الكيان نكاية في شركاء الداخل الوطني في كل قطر شهد حراك الربيع.
كما انكشف لنا موقف فصائل الإسلام السياسي وتنظيماته القطرية من مسألة الحريات والديمقراطية إذ ثبت أنهم المدافع الأخير والوحيد عن إمكانيات التحول السياسي السلمي بواسطة الصناديق الانتخابية. كما أنهم الحاضن الحقيقي لفعل المقاومة في الأرض المحتلة. ونتجاوز هنا عن التقييمات العجولة لادائهم السياسي في لحظات مشاركتهم في الحكم. ولكن نرسخ الجملة التالية ، الذين طعنوا في كفاءتهم في الحكم وقفوا مع الردة بلا مورابة وهم ينتجون فشلا غير قابل للتمويه.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل يستثنى السكن الرئيس من الإرث لبنات المتوفى وزوجته؟!
ميكافيلي.. هل ما يزال يحكم العالم؟
استقبال الجماهير لخبر وفاة المدخلي
خلاصة هذه المعطيات أن تيار الإسلام السياسي يقف اللحظة في مقدمة القوى الساعية إلى التغيير السلمي وفي مقدمة من ينافح عن المقاومة ويعمل على رفدها بالمتاح من الإمكانات. لقد فرزت الصفوف للدخول في المستقبل. كيف يمكن للتيار الإسلامي أن يبرأ مما أصابه من تشويه في معركة الحكم ويعود لمكانة تليق بصدقه في معركة الحريات هذه مشغلة مركزية لا يمكن الإجابة عنها عوضا عنهم ولكنهم ملزمون بالاقرار بأن فشلهم في العودة يعني نهايتهم فيكون الربيع قد أكمل الفرز الضروري لتنقية الصفوف للمستقبل. ويمكنهم أن يسموا ذلك بقانون الاستبدال.
المقاومة تنتصر.
عندما قال لنا قادة السابع من أكتوبر إ‘نهم قادرون على الصمود في وجه العدو لسنوات حسبنا ذلك في الدعاية الحربية. ولكننا متفاجأون مثل كل العالم بهذا الصمود الخارق لقوانين الحرب. فموازين القوة منخرمة لكن النتيجة مبهرة. العدو يبحث عن مخارج لانقاذ جيش فقد الصبر والايمان بمعركته. بينما مازال لدى المقاومة من يرتقي دبابة ويرمي في قلبها قنبلة فيحرقها بمن فيها. نسمع لبعض حكماء السلام بيننا يطرحون السؤال عن جدوى التضحية فنكتفي بأن نرسل إليهم مقالاتهم في تمجيد صمود ستالينغراد في وجه النازي.
لقد تهشمت قوة العدو النفسية قبل العسكرية وإذا كان قادرا على ترميم قواته بدفق مالي غزير من حلفائه فإن الأموال لن ترمم روح شعب فقد الإيمان بفكرته المؤسسة. نستشعر بقوة أن السردية الصهيونية انكسرت كسورا لا ترمم بمال. فضلا عن ذلك فإن من يشن حربا ولا يختمها بنصر ماحق يعجز عن معاودتها ولو استلف لها شعبا وجيوشا. (ولنكتف هنا بالاشارة إلى الخراب الداخلي فسقوط السردية في الخارج وخاصة في أوروبا المريضة بإثم الهولوكست رافد إضافي يعمق الكسر في الداخل).
هنا لا يمكن لأي تحليل أن يغفل ميلاد صورة للمنطقة ليس فيها الكيان حاكما بأمره يملي فيطاع. فإذا تجمعت القوى الشعبية المؤمنة بالحرية وفي القلب منها القوى الإسلامية إلى هذه الروح المنتصرة في غزة فإن تيار التغيير ذاهب إلى التوسع وفرض خيارات الحرية في مستقبل منظور. إن إعادة الترميم في غزة يمكن أن تكون بوابة لتثوير الشارع العربي بمثل قافلة الدعم المغاربية التي كانت فرصة صغيرة ولكن حاسمة في الفرز. بدء الإرباك في الداخل لاعداه طرح قضايا الحريات وفي مقدمتها إسناد غزة في مرحلة إعادة الترميم.
نصر ايراني ذكي.
على قاعدة الضربة التي لا تقسم الظهر تقويه. تصرفت إيران في حربها. نراها منتصرة بثمن قابل للتحمل. ومع ما حفظناه عن إيران من طول النفس التفاوضي فإن إيران تفاوض الآن من موقع القوة رغم الخسارة المعلنة. لقد تم استعمال القوة فانتهي التهديد باستعمالها بما يريح المفاوض الإيراني فضلا عن كشف قوة السلاح الإيراني ودقته التي يشاهد العدو أثرها في عاصمته. بما يجعله يفكر كثيرا قبل محاولة استعمال قوته من جديد.
ثوار السويشيال ميديا رغبوا في حرب تتقدم فيها إيران فتمحو العدو من الخريطة. لم تحدث الحرب طبقا لشهواتهم مثلما لم يأتهم قبل ذلك نصر حاسم من صواريخ صدام حسين، لكن البلورة المصانة تشققت وتركت إيران للطبيعة تكملة المهمة فيما هي تستعد لتجميع قوة أكبر بخوف أقل من اقتحام أرضها وسمائها. فإذا وضعنا هذا النصر المعقلن بجانب مفاعيل الطوفان فإن الصورة تكتمل بالتدريج. المنطقة تنتقل من وضع الخاضع المهمين عليه إلى وضع الفاعل المشارك المسنود بنصر في مواضع كثيرة تحتاج فقط إلى ربط مفاصلها بخطاب نصر.
سوريا غير بعيدة.
في الحرب على إيران تكلم سوريون كثر بموقف شامت في إيران. ولامهم الكثيرون وتدبر لهم كثيرون أعذارا فسكاكين إيران لا تزال مغروسة في خواصرهم وقد انتشر خطاب تخوين كثير للموقف السوري خصوصا مع ايحاءات العدو بقرب التطبيع السوري. لكن العارفين بالشعب السوري يعرفون موقفه من العدو ولو تهاون النظام الجديد في خطوات تطبيع. لا يمكن الاستهانة بذكاء الشعب السوري. فهو الأقرب جغرافيا إلى العدو وبعض أرضه محتلة ولا نرى حاكما يقوم على أمر سوريا يتجاهل الروح التي تحكم السوريين تجاه العدو. من احترام ذكاء الشعب الذي حرر نفسه بقوة السلاح أن لا يُزَايد عليه في أمر مصيري. لقد كان الكيان سببا أولَ في تدمير سوريا ولذلك ليس من السهل على شعب مقهور أن يتناسى مآسيه ليقفز من العداء إلى التطبيع. لذلك نرى أن الثورة السورية المنتصرة تدعم فرضية التحول العميق في المنطقة إلى جانب مفاعيل الطوفان وألى جانب نصر إيران ولو أن بين سوريا وإيران ما لا يمكن اصلاحه في زمن قصير. ولا نرى السوريين يفرطون في مجد عظيم. إنها روافد انتصارات متفرقة تصب في نهر تحول عميق.
إعادة اطلاق الربيع العربي.
في الغرب كما في أوساط عربية كثيرة وضع الطوفان معركة التحرير ومعركة الديمقراطية في سياق موحد كما لم تفعل عقود طويلة من الخطابات النخبوية الرنانة بتلازم التحرير في الأرض المحتلة وفي الأقطار. متى تنطلق موجات الحرية في الأقطار لدينا يقين بحدوثها ونعجز عن التقاط الصيحات الأولى لكن أنظمة الردة على الحرية تحتضر.