هل طبّق المذهب الجعفري على ميراث البنات في مصر؟!

د. زينب أبو الفضل (منصات التواصل)

ناقشنا في مقالات سابقة، مسألة ميراث البنات المنفردات عند عدم وجود الأخ، في ميراثهن من الأب أو الأم، مع وجود عاصب ذكر، وذكرنا أدلة الجمهور التي تقضي بأنهن لا ينفردن بالتركة، بل أقصى ما يحزْن منها الثلثين، وبقية التركة تذهب لأقرب عصبة ذكر، وذكرنا أدلة المذهب الجعفري، ووجاهة هذه الأدلة، وأن ادعاء الإجماع في القضية لا يسلّم به، واعتبار وجود رأي لدى المذهب الشيعي الجعفري يمنع الإجماع.

وكان كثير من الفقهاء المعاصرين يخشى أن يذكر رأيا فقهيا في قضية يكون القائل بها المذهب الشيعي، لما يسبب ذلك من حساسية، أو هجوم عليه، وهو ما نوّه إليه الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله-، فقال: (وكثيرا ما نراهم يردفون حكايتهم للإجماع بقولهم: (ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج)، أو (بمخالفة المعتزلة والجهمية)، ونحو ذلك مما يخيفون به، وبهذا امتنع كثير من العلماء من إبداء رأيهم في كثير من المسائل التي هي محل خلاف ظنًّا بسمعتهم الدينية، فوقف العلم، وحرمت العقول لذة البحث، وحيل بين الأمة وما ينفعها في حياتها العملية والعلمية).

ولو نظرنا في تاريخ تطبيق الشريعة الإسلامية في جانبها القضائي أو القانوني، سنجد مسائل الميراث موضع نقاش واجتهاد مستمر، على مر العصور، وسنرى دائرة الفقيه المعاصر -خاصة- تتسع بالنظر إليها، سواء بالنظر إلى تراثنا الفقهي، أو اطلاعه واستمداده من فقه الآخرين، كما رأينا في قانون الوصية بوجه عام، والوصية الواجبة بوجه خاص، في مصر، فقد استمد معظمه من الفقه الجعفري، وحل بذلك مشكلة كانت تمثل نوعا من الحرمان، أو هضم حق الأحفاد الذين يحرمون من تركة جدهم، لأن أباهم مات في حياة والده، وكان قانون الوصية الواجبة يمثل لونا من الاجتهاد الفقهي الذي عوضهم عن ذلك.

هل طبّق المذهب الجعفري في مصر على ميراث البنات؟

فهل يمكن أن ينقل رأي الفقه الجعفري أيضا في ميراث البنات هنا، وهل طبّق هذا الرأي بالفعل في أي فترة تاريخية بمصر؟ لقد نقلت الدكتورة زينب أبو الفضل، أن هذا الرأي الفقهي تم تطبيقه في مصر، حين حكم الفاطميون مصر، فقالت: (ما كانت عليه الفتوى والقضاء في مصر، وداخل أروقة الأزهر الشريف طوال حكم الفاطميين لمصر، هو توريث البنت التركة كاملة إذا انفردت فرضا وردا، وفق المذهب الشيعي الفاطمي، ثم لما تحولت مصر إلى المذهب السني في عهد صلاح الدين الأيوبي استقرت الفتوى على ما هي عليه الآن، وفق المذهب السني).

وقد وردت هذه المعلومة في أكثر من كتاب تاريخي عن الدولة الفاطمية، التي كانت تعتنق المذهب الشيعي، وسعت سعيا حثيثا لنقل مصر من المذهب السني للشيعي، فقد وردت المعلومة في كتاب: تاريخ الدولة الفاطمية للدكتور محمد جمال الدين سرور (ص: 80)، وفي كتاب الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد، للدكتور أيمن فؤاد سيد (ص: 539)، وما بعدها.

وقد نفّذ الفاطميون ذلك بالفعل، فقد ذكر ابن تغري بردي في كتابه: (النجوم الزاهرة) أن في عهد الظاهر الفاطمي، عرضت عليه تركة رجل من بغداد مات بمصر، فقال ابن تغري بردي: (ومات في أيّام الظاهر المذكور مبارك الأنماطي البغدادي التاجر، وكان له مال عظيم، وكان قد خرج من بغداد إلى مصر فتوفّى بها في سنة سبع عشرة وأربعمائة، وكان معه ثلاثمائة ألف دينار. فقال الظاهر: هل له وارث؟ فقيل: ما له سوى بنت ببغداد، فترك الظاهر ‌المال ‌كلّه ‌للبنت، ولم يأخذ منه شيئا).

وقال ابن حجر: (دخل جوهر مصر وأقر القاضي على حاله، لكن ألزمه أن يحكم في المواريث بقول أهل البيت وفي الطلاق وفي الهلال، وكان القاضي يتراءى هلال رجب وشعبان ورمضان كل سنة بسطح الجامع، فأبطل ذلك وصار الهلال بالعدد شهرا ثلاثين وشهرا تسعا وعشرين، في الصيام والفطر وغير ذلك).

وقال ابن حجر: (عبد الله بن محمد بن أبي ثوبان عبد الله بن أبي سعيد أبو سعيد. قال ابن زولاق: قدم صحبة المعز من بلاد المغرب، فولاه النظر في المظالم بمصر، فتنشط في الأحكام واستماع الشهادات والإسجال بالأحكام، وأمر الشهود أن يكتبوا عنه في تسجيلاته: قاضي مصر والإسكندرية. واختص بشهود ويشهدون عليه في أحكامه. فلما تظلم ابن نبت كيجور في أمر الحمام الذي كان جده لأمه أنشأها، وتنجز من المعز توقيعا بأن ابن أبي ثوبان ينظر في أمرها، وأقام عنده البينة بأن جده المذكور بنى الحمام المذكور، وأنه توفي وانحصر إرثه في بنته، وهي والدة المدعي، وكان المعز تقدم إلى قضاته ‌أن ‌يورثوا ‌البنت ‌جميع ‌الميراث، إذ لم يكن معها أخ أو أخت، فكتب ابن أبو ثوبان له سجلا بذلك وأحضر الشهود ليشهدوا على حكمه).

وقد مر تطبيق المذهب الجعفري على الميراث في مصر بمراحل عدة، فعندما دخل جوهر الصقلي مصر أقر القاضي السني، ولكنه ألزمه بأن يحكم في المواريث بحكم أهل البيت، أي: وفق المذهب الشيعي، وظل يعمل بذلك لعامة المسلمين سواء سنة أو شيعة، وكان أحيانا ترفع رقاع للخليفة بهذا الشأن فيدلي فيها برأيه.

ثم جاءت مرحلة تالية نتيجة نقاش دار بين الشيخ أبو بكر الطرطوشي المالكي، مع الوزير، وأن المذهب السني يرفض هذا الحكم في المواريث، فقررت الدولة الفاطمية أنه من كان سنيا اتبع المذهب السني، ومن كان شيعيا اتبع مذهبه أيضا بشأن التوريث.

نقاش فقهي واجتماعي حول الموضوع:

ما ذكرناه من نقاش فقهي وأصولي، وتطبيق تاريخي لهذا الرأي الفقهي، يفتح بابا لإعادة النقاش حوله، وجدوى تطبيقه وأهميته، ولكن بما أن المواريث في مصر تسري في المحاكم وفقا للشريعة الإسلامية، والاجتهادات الفقهية التي يقرها الفقهاء، فالأمر يحتاج إلى إعادة نقاش حول الموضوع، ويطرح من جوانبه المختلفة، فإن وجدت أوجه للاستفادة به تفيد المجتمع، وتقيم موازين العدل فيه به، فالمسألة هنا لها وجاهة فقهية، وأسباب اجتماعية وواقعية، وهناك سوابق تشريعية في مصر، أخذت فيه بآراء لم تكن رأي جمهور الفقهاء، سواء في قانون الوصية، أو في فتاوى الطلاق البدعي، أو الحلف بالطلاق، لما في ذلك من إنقاذ للأسر المسلمة.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان