لماذا تفرض دولة الاحتلال الإسرائيلي الرقابة العسكرية وتقيد حرية الإعلام؟!

تحليل خطاب قادة دولة الاحتلال الإسرائيلي يمكن أن يكشف الكثير من الحقائق، ويدمر الكثير من الخرافات العنصرية التي تستخدمها في تضليل الجمهور الغربي. ومن أهم تلك الخرافات أنها دولة ديمقراطية تطبق المعايير الغربية الحديثة.
لكن الأحداث تبرهن على زيف الرواية الإسرائيلية، وأن دولة الاحتلال تريد التحكم في تدفق المعلومات، وحرمان الجماهير من المعرفة، وتقييد حرية الإعلام، ومنع الصحفيين من تغطية الأحداث، وفرض الرقابة العسكرية.
ولم يكن السلوك الإسرائيلي العدواني ضد حرية الإعلام نتيجةً لعدوانها على إيران، ومحاولةً لحماية الصهاينة من هزيمة نفسية، لكنه كان نتيجةً لتاريخ طويل من العمل لتغييب وعي الشعوب، والخداع الإعلامي، وفرض الرواية الإسرائيلية على العالم.
ولقد شارك النظام الإعلامي العالمي في تضليل الشعوب، وتقييد حقها في الحصول على المعلومات، فاحتلال الدولة الصهيونية لفلسطين مشروع غربي فرضته الدول الاستعمارية على المنطقة للتحكم فيها.
نيابة عن الغرب الاستعماري!
ولقد كشف المستشار الألماني فريدريش ميرتس الحقيقة بقوله: إن إسرائيل تقوم نيابة عنا جميعًا بالأعمال القذرة؛ وهذا التصريح يكشف حقيقة المعايير الغربية المزدوجة، والأبعاد الاستراتيجية لعلاقة الغرب بإسرائيل. وهو يعني أن إسرائيل تقوم بعدوانها على إيران لتدميرها نيابة عن الغرب كله.
وهذه العبارة تشير إلى ممارسة تاريخية في الفكر الغربي والسياسة الاستعمارية تُعرف بـ”التفويض بالعدوان”؛ حيث يتم ترك الأعمال القذرة مثل الإبادة والاغتيالات لدولة حليفة يمكن أن تتحمل التبعات الإعلامية والأخلاقية.
عبارة المستشار الألماني تحمل أيضًا دلالة مهمة؛ هي أن العدوان الإسرائيلي ضروري للغرب، لكنه يتنافى مع المعايير القانونية والأخلاقية. وهذا يوضح النفاق الغربي، وأن دول الغرب توافق على استخدام القوة الغاشمة في إبادة الشعوب طالما أن ذلك يحقق مصالحها، وأن الغرب يقدم الغطاء السياسي لأعمال إسرائيل القذرة، وأن كل دول الغرب تشارك في إدارة الصراع.
هذه العبارة تشكل اعترافًا بأن إسرائيل أداة في المشروع الاستعماري الغربي ضد الشرق، وأنها وكيل أمني للغرب تقوم نيابة عنه بالأعمال القذرة. وهي ليست من فلتات اللسان؛ بل إنها تعبير عن واقع استراتيجي ومكانة دولة الاحتلال في مشروع السيطرة الغربية على المنطقة.
بن غفير والعداء للجزيرة
هل يمكن أن تتصور أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تمنع الناس من التعرض لقناة الجزيرة؟! وهل يختلف سلوكها عن قيام السلطات الديكتاتورية باعتقال أي شخص كان يستمع لإذاعة “البي بي سي”؛ التي كان يقول دريد لحام في مسرحية “كاسك يا وطن”: إنه يعرف منها أخبار بلده؟!
لكن الأمر لم يعد نكتة تشير إلى عجز وسائل إعلام الدولة عن تغطية الأحداث، وتوفير المعرفة للجمهور، الذي يضطر للاستماع لإذاعة “البي بي سي” التي كانت تتمتع بمصداقية في زمن لم تنافسها فيه أية وسيلة إعلامية، ولم تتضح بعد حقيقة تحيزها لإسرائيل.
طالب بن غفير، وزير الأمن الإسرائيلي، الجمهور بإبلاغ أجهزة الأمن عن أي شخص يشاهد الجزيرة داخل البلاد؛ أي أن من يشاهد الجزيرة يمكن أن يتعرض للعقاب؟! فما بالك بصحفي يقوم بمراسلة الجزيرة أو تغطية الأحداث لها، أو أي مصدر يتحدث للجزيرة أو يقدم لها معلومات.
إن هذا يوضح أن دولة الاحتلال الإسرائيلي قد بلغت مرحلة من تقييد حرية الإعلام لم تعرفها دول العالم مهما بلغت درجة استبدادها وتخلفها.
إنه يعتبرها العدو!
قال بن غفير أيضًا: لن نسمح لقناة الجزيرة بالبث من إسرائيل؛ فهي تعرض أمننا القومي للخطر. لكن لماذا يقول بن غفير ذلك الآن؟ فهناك قانون أصدره الكنيست في إبريل 2024 عرف باسم “قانون الجزيرة”، وهو يسمح لوزير الأمن الداخلي (بن غفير) بإغلاق مكاتب محطة أجنبية إذا كانت تمثل تهديدًا للأمن، دون الحاجة لموافقة مسبقة من مجلس الوزراء. وقد قامت المحكمة في تل أبيب بتطبيق القانون، وحظرت قناة الجزيرة. كما سبق أن وصف بن غفير الجزيرة بأنها شبكة معادية لليهود، واتهمها بالعداء للسامية؛ وهي التهمة التي تحولت إلى وسيلة لإرهاب الإعلاميين والمفكرين وأساتذة الجامعات في أوروبا وأمريكا. كما طالب بطرد الجزيرة بعد أن تقدمت بشكوى لمحكمة الجنايات الدولية تطالب فيها بالتحقيق في مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة.
لماذا يخاف بن غفير؟!
لكن ما الذي دفع بن غفير لهذا التصريح الآن، بعد أن كرره كثيرًا خلال العامين السابقين؟ كما أنه يفرض الرقابة العسكرية القاسية على كل وسائل الإعلام، ويطالب الإسرائيليين بشكل متكرر بعدم استخدام هواتفهم المحمولة للتصوير، كما يفرض الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف فرض تعتيم إعلامي شامل على الأحداث؟ كما أن هناك الكثير من الأدلة على أن الشركات الأمريكية عابرة الجنسيات التي تتحكم في وسائل الإعلام والإنترنت متحيزة لإسرائيل، وتمنع نشر الكثير من المضمون الذي ترى أنه لا يتفق مع الرواية الإسرائيلية ولا يحقق مصالحها.
يوضح ذلك أن بن غفير يخاف من كشف حقائق تدمر السردية الإسرائيلية. وهي بالتأكيد ليست المواقع التي تعرضت لضربات الصواريخ الإيرانية؛ فتلك معلومات تدرك الحكومة الإسرائيلية أنه من الصعب التعتيم عليها.
حقيقة الهزيمة النفسية
إن هناك معلومات ومشاهد تريد الحكومة الإسرائيلية منع نشرها؛ لأنها يمكن أن تزيد الشعور بالذل والهوان لدى الإسرائيليين وتسبب لهم هزيمة نفسية. ومن أهمها مشاهد الخوف والهلع وهم يتدافعون نحو الملاجئ، ويتصرفون بهمجية تتعارض مع التطور الحضاري الذي تدعيه إسرائيل. وأن تلك المشاهد تشوه صورة إسرائيل التي تعرف جيدًا أهمية الصورة، وأنها تشكل معركة أهم بكثير من الحرب؛ فالعدوان الإسرائيلي سبب خرابًا ودمارًا في إيران يفوق أضعاف ما سببته الصواريخ الإيرانية.
هناك مشاهد أخرى تريد حكومة نتنياهو إخفاءها، من أهمها الهجرة العكسية، وهروب الإسرائيليين بأرواحهم إلى دول أخرى بدفع الكثير من الأموال؛ فالفكرة يمكن أن تنتشر كالنار التي أشعلتها الحكومة الإسرائيلية في نفسها. لذلك تحاول إخفاء هذه المشاهد والتعتيم عليها، ومنع وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من نشرها. وأعتقد أن ذلك يشكل تفسيرًا لسلوك الحكومة الإسرائيلية العدواني ضد حرية الإعلام.