محمد خان.. الكاميرا تروي قصص الحرية

بلغة الأدب هو الراوي العليم، يحكي الحكاية ويلم بكل خيوطها وتفاصيلها.
يسرد القصة بالكاميرا لا بالقلم.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأن تكون رئيسًا حتى مدخل القبر!
مفهوم العمى الكولونيالي: لماذا لا يعترفون بحقنا في الحياة؟!!
غزة تمنح اليسار قبلة الحياة في بريطانيا
لأن محمد خان، المخرج الفذ، كان صديقا للشوارع، يعرفها جيدا، ظل يقص “الحواديت” التي عاشها في الزوايا والأركان التي مر بها يوما ما.
في رواياته وقصصه كلها، كان يعرض نفسه على الشاشة، لا كشخص ولكن كفكرة.
بإيمانه بقيم الحرية والعدل والإنسانية، تحولت الأفكار النظرية إلى حكايات بشر.
وبكل عمق حكاياته عن الإنسان، لا يهتف ولا يستخدم الصوت العالي على الشاشة، بل يخاطب المتلقي بلغة هادئة وشاعرية.
بتلك اللغة الناعمة نفسها، عبَّر بدقة عن الإنسان حينما كافح ليختار الحب، وحينما ناضل توسُّلا للعدل والحرية.
هذه هي قضايا عمره التي خلَّدته في القلوب.
في يوليو/تموز الجاري، يكمل محمد خان تسع سنوات من الغياب.
فالأجساد تغيب والرسالة تبقى ويخلّدها الزمن.
وهو الذي غاب بصمت يشبهه، اختفاء يترك في القلب شيئا لا يختفي أو يزول.
الحرية الغائبة في بيت “الرجل المهم”
السلطة تخنق الحب ولا تعرف المشاعر.
هكذا ببساطة وبإيقاع فني حزين ومتوتر، شدد علينا وهو يحكي قصة “الرجل المهم”.
“زوجة رجل مهم” هو أحد أهم أفلامه، وأكثرها ألما وواقعية.
روى خان حكايته من الداخل.
بجوار السلطة ذاتها التي تحرق من يجاورها وتسحق المشاعر بلا رحمة.
منى الفتاة الحالمة الرومانسية التي عاشت حياتها على صوت عبد الحليم حافظ، والتي تسجل تاريخها الشخصي بحفلاته، دفعت الأثمان الأفدح من صحتها واستقرارها وحياتها.
في الاقتراب من السلطة رعب مقيم، وفي الحلم بالحب مع من يفتقد المشاعر انفجار مخيف.
بدا محمد خان المخرج الفذ يبعث برسالته المؤلمة بالكاميرا التي لا تكشف سلوك الرجل المهم فقط بل نظراته المتوحشة.
نهم للسيطرة يُفقد صاحب السلطة إنسانيته.
حالة من التسلط على كل شيء، ورغبة في تملك كل شيء.
دفعت الزوجة حياتها عندما لم تفهم برومانسيتها وطيبتها أنها عاشت في أحضان سلطة لا رجل.
وأدركت بعد فوات الأوان أن الحرية أغلى من كل شيء، وأن القمع يسكن البيوت أحيانا.
ظهر خان في تحفته الخالدة “زوجة رجل مهم” مدافعا عن الحرية، ومحذرا من الوقوع في الاعتقاد أن السلطة لها وجه طيب.
بدا حزن المجتمع بعد وفاة عبد الحليم حافظ في الفيلم إيذانا بانتهاء زمن الأحلام والحب.
انهارت أحلام الزوجة الرومانسية التي أحبت عبد الحليم، وأدركت أن سنوات الشباب التي مرت على أمنيات صوته الدافيء قد زالت، ولم يتبق سوى صدى صوت السلطة المستبدة.
بإيمانه بالحرية نبهنا خان إلى أن الحب لن يعيش إذا ما تسلط عليه الاستبداد.
وكان على حق.
“الحرّيف” يبحث عن العدالة
“أنا هلعب مع الخسران”.
أوشك الفيلم على الانتهاء قبل أن يبعث فارس (عادل إمام) برسالته الخالدة إلى الجمهور.
فارس الموهوب الحرّيف الذي يلعب الكرة اختار “العدالة” لا القوة والكذب.
انتمى إلى هؤلاء الذين عاش بينهم وانحاز إليهم.
موهبته الفطرية ليست للبيع، وكرامته فوق كل اعتبار.
في “الحريف” كان خان يحكي عن العدالة.
يبحث عنها بين هؤلاء البسطاء الموهوبين الذين يعيشون الحياة ببساطة، ويتمسكون بكرامتهم بحسم رغم المعاناة والضغوط المعيشية التي لا تنتهي.
هو خان نفسه الموهوب الذي عاش حياته بين الناس ولهم، يعبّر عنهم ويحكي قصصهم بصدق ومحبة.
“الحرّيف” فيلمه المختلف المميز ليس عن كرة القدم، لكن عن العدالة والموهبة والكرامة وحب الحياة.
تجولت كاميرا خان في الحواري الشعبية وبين البسطاء ليكشف العدالة لا كشعار سياسي بل كإحساس يمكن اختصاره: يجب أن نعيش الحياة كما نستحق، وأن نحياها بكرامة.
ثم أطلق فكرته الخالدة: لا تخشَ من اللعب “الخسران” لو اقتضى الأمر، ربما تجعله فائزا في الغد.
وفي انتصاره انتصار لنا جميعا.
هند وكاميليا ونجوى
لا يكفّ محمد خان عن البحث عن الحب والإنسانية.
“هند وكاميليا” كانتا تبحثان عن حقهما في الحياة كبشر بعيدا عن الفقر.
أحلامهما على بساطتها تستحق أن يدافع عنها فن يعبّر عن الناس، وعدسة تصور الحياة بصدق ودون تجميل.
هما فتاتان تعيشان على هامش الحياة، لا في متنها.
تحنو إحداهما على الأخرى من دون سبب إلا لأنها تشبهها.
رأتها تبحث عن الإنسانية وسط مجتمع قاس بلا مشاعر.
هند وكاميليا وأحلامهما نماذج لكل فتاة فقيرة التقاها خان في مجتمع بلغت به القسوة مداها.
انحاز إلى الفتاتين كأنه ينحاز إلى المرأة وقضاياها، لكنه لم يبرئ الجميع، ولم يُعفِ كل من تغافلوا عن الإنسانية من مسؤولية الصمت على الأقل.
في “أحلام هند وكاميليا” بحث عن الإنسانية قبل أن يبحث عن الحب في “شقة مصر الجديدة”.
ببساطة هند وكاميليا، كانت “نجوى” (غادة عادل) تبحث عن أستاذتها “تهاني” التي اختفت بعد أن تعلمت منها معنى الحب وقيمته.
سافرت البنت البسيطة من المنيا إلى القاهرة بحثا عن “أبلة تهاني”، صديقتها ومعلمتها.
ابتلعتها المدينة الكبيرة بقلقها وصخبها وتوترها.
لكنها لم تستسلم رغم الصعوبات.
في طريق البحث عن الحب تهون المصاعب مهما كانت.
هي رسالة خان الخالدة في فيلمه الناعم البديع “في شقة مصر الجديدة”.
جميعنا شاركنا نجوى بحثها عن تهاني.
في قصة خان ولغة الكاميرا الناعمة، بتنا جميعا -مشاهدين- شركاء في البحث عن الحب دون أن نشعر.
وهذا هو هدف الفيلم ورسالة خان.
لم تخسر نجوى في بحثها عن الحب، ولا خسرنا نحن بل زادتنا رسالة خان نبلا ورقة وجمالا.
بمقدار ما تعاني التعب بحثا عن الحب ستجده، فقد عثرت عليه نجوى بعد إرهاق طويل.
عرفت أن تهاني أحبت وتزوجت بعد أن ألقتها الصدفة في طريق “يحيى” (خالد أبو النجا) لتشعر أن شيئا ما قد حدث في قلبها ومشاعرها.
عادت نجوى إلى وطنها الأصغر وهي تغني مع ليلى مراد ومعنا ومع خان “أنا قلبي دليلي قال لي هتحبّي”.
ودائما تصدق القلوب.
هكذا بشرنا خان قبل أن يترك عالمنا ويغادرنا بجسده.