مصر.. ماذا لو صار طرد المستأجرين “الإيجار القديم” نافذا؟

ضجة هائلة في الأوساط الشعبية المصرية، وجدل محتدم، يشعل وسائط التواصل الاجتماعي، على خلفية تمرير مجلس النواب (الأربعاء) مشروعا مقدما من الحكومة بـ”تعديلات” على قانون الإيجار القديم، لما تضمنته هذه التعديلات، في المادة الثانية منها، للمرة الأولى، بالنص على الطرد إلى الشارع، بعد سبع سنوات، لملايين المستأجرين من “المساكن” القاطنين بها منذ أمد بعيد، مع تعهدات “غير واقعية” بإعطاء أولوية للمطرودين في الإيجار أو التملك في الوحدات السكنية المطروحة “حكوميا”.
كون هذه الوحدات كائنة في مدن جديدة، ليست مرغوبة ولا ملائمة لظروف أغلبية المطرودين الحياتية والمالية. الحكومة تتعلل بالامتثال لحكم المحكمة الدستورية العليا (2024/11/24) بينما هذا الحكم لم يقل بطرد المستأجرين، بل اقتصر على “عدم دستورية تثبيت الأجرة السنوية في قانون الإيجار القديم”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsشهاب.. سائق “التوك توك” مذنب أم ضحية السرد الناقص للكاميرا؟
ماذا يريد بيتر ميمي المخرج المدلل أن يقول؟!
عكس التوقعات.. الذكاء الاصطناعي يبطئ سرعة المبرمجين لهذا السبب
مشروع القانون ينص على زيادة قيمة أجرة الأماكن المستأجرة لغرض السكنى إلى 20 ضعفا بحد أدنى ألف جنيه في بعض المناطق، وعشرة أضعاف في المناطق الأقل تميزا، وذلك فور سريان القانون، في حال تصديق رئيس الجمهورية. وتزداد الأجرة 15% سنويا، على أن تتولى لجان تحديد قيمة الأجرة للمسكن، وفقا لمدى تميز المنطقة الكائن بها العقار، ومعايير أخرى.
جوهر المشكلة.. وافتقاد البيانات والإحصائيات
البادي أن “الحكومة” لم تقدّم لمجلس النواب “البيانات والإحصائيات” اللازمة لفهم المشروع ودراسته. وعلى ذكر البيانات، فهناك إحصائية منسوبة إلى وزارة الإسكان عام 2017، بأن عدد الوحدات السكنية الخاضعة لقانون الإيجار القديم هو مليونان و800 ألف وحدة، أي أن هذا هو عدد الأسر المتضررة من مشروع القانون (12- 14 مليون فرد تقريبا).
وتكمن المشكلة في التعجل والتعاطي على قدم المساواة مع مستأجري جميع “الوحدات السكنية” المخاطبين بمشروع القانون، بينما يقسمهم الخبراء إلى ثلاثة أقسام مختلفة، بما يستدعي نسقا قانونيا ملائما مختلفا لكل قسم، تلافيا للمخاطر الاجتماعية المترتبة على التطبيق. القسم الأول هم مستأجرو “الشقق المغلقة”، ويمكن الاستدلال عليهم وتنفيذ الإخلاء في سهولة ويسر، وإعادة هذه الشقق إلى مُلاكها، فالإغلاق كاشف لانتفاء حاجة المستأجر إلى الشقة.
أما القسم الثاني فهم المستأجرون ذوو القدرات المالية، الذين يمكنهم بطبيعة الحال تأمين سكن بديل دون عقبات مالية. يتبقى القسم الثالث، وهو جوهر المشكلة، ويشمل المستأجرين غير القادرين ماليا، ممن لا يمكنهم تدبير سكن بديل، ولا يتحملون زيادات كبيرة في قيمة الإيجار، بما يستلزم تمديد فترة السنوات السبع لتكون مدة أطول، أو إيجاد سبل عملية لتوفير بديل مناسب لهم في المناطق نفسها أو أخرى قريبة. البادي هنا افتقاد البيانات، والتعداد لكل قسم من الأقسام الثلاثة.
المالك والمستأجر.. في شريعة حمورابي
العلاقة بين مالك العقار وشاغله المستأجر مصحوبة منذ فجر التاريخ بالتوتر، ولا تخلو من النزاعات، لكون المالك هو المسيطر على العقار السكني. بينما المستأجر أضعف، لاعتماده على السكن ليؤويه مع أسرته. من ثَم، أدركت البشرية مبكرا الحاجة إلى “تشريعات” تحكم العلاقة بينهما.
وكان السبق لمملكة بابل (العراق حاليا) التي عرفت شريعة حمورابي (عام 1750 قبل الميلاد)، لتكون أول قانون مكتوب منذ نحو أربعة آلاف عام. احتوت هذه “الشريعة” على تنظيم تفصيلي لعقود بيع الممتلكات وتأجيرها، واعتمدت الوثائق المكتوبة وشهادة الشهود لتسوية النزاعات في حال نشوبها بين المالك والمستأجر. واستن القانون الروماني (عام 450 قبل الميلاد)، المعروف باسم الألواح الاثني عشر، ضوابط أكثر تطورا لـ”عقود الإيجار” لتكون عقدا رضائيا بالاتفاق بين المالك والمستأجر.
وهو ما أسَّس، لاحقا، لقواعد القانون المدني (المنظم للعقود) الساري في عصرنا الحالي. لكن القانون الروماني احتوى على تمييز طبقي، بترك المستأجر من الطبقات الدنيا فريسة للمالك، مكتفيا بتوفير الحماية للمستأجر من الطبقات العليا، قبل أن تتطور القوانين المنظمة للعلاقة بين المالك والمستأجر في العصور الحديثة إلى شكلها الحالي.
وتتأثر هذه القوانين بالرؤية السائدة للملكية وحقوق الافراد، فتنحاز إلى المالك كلما كان النظام الاقتصادي رأسماليا فجا، بينما تكون أكثر توازنا وإنصافا للمستأجر في الأنظمة الاشتراكية.
حظر طرد المستأجر عام 1920
صدر “أول قانون مصري” لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر عام 1920، متضمنا زيادة قيمة إيجار المساكن بنسبة 50% عما كانت عليه في 1914، ويحظر على المالك طرد المستأجر إلا بحكم قضائي.
هذا الحظر بالطرد هو الساري حتى يومنا هذا، وطالته ستة تعديلات عقب قيام ثورة يوليو/تموز عام 1952، وحتى عام 1965، لضمان الاستقرار للمستأجر، وتحديد معايير فنية لتقدير الإيجار. وتوالت التشريعات في عصر الرئيس أنور السادات (1970-1981)، بصدور القانون رقم 49 لسنة 1977، بإلغاء جميع القوانين السابقة، واستحداث نصوص جديدة. وشهد عام 1981 صدور “قانون الإيجار القديم رقم 136″، مستهدفا تحقيق التوازن بين طرفي العلاقة، وهذا هو القانون الذي طاله حكم المحكمة الدستورية الأخير. إلى أن صدر القانون رقم 4 لسنة 1996، لتحرير العلاقة بين “المالك والمستأجر”، وإخضاعها للقانون المدني الساري حاليا (رقم 131 لسنة 1948)، لتكون لهما الحرية في الاتفاق على مدة التعاقد وقيمة الإيجار، تحت قاعدة “العقد شريعة المتعاقدين”.
تصديق الرئيس
ما العمل والسبل للخروج من هذا المأزق؟
بحسب خبراء القانون، فالمحكمة أمهلت الحكومة حتى نهاية دور الانعقاد الراهن لمجلس النواب. وبناء عليه، فإما أن يصدّق الرئيس عبد الفتاح السيسي على مشروع القانون، فيُنشر بالجريدة الرسمية ليصير نافذا، وإما أن يستخدم الرئيس حقه الدستوري بالاعتراض على المشروع وإعادته إلى “مجلس النواب”، فيكون على الأخير تعديله استجابة للاعتراضات، قبل انفضاض دور الانعقاد الحالي (ربما نهاية الشهر الجاري) أو فض دور الانعقاد دون التطرق إلى المشروع.
في الحالة الأخيرة، يدخل حكم الدستورية العليا حيز التنفيذ فورا، ويكون للمالك “الراغب” إقامة دعوى لطرد المستأجر استنادا إلى حكم المحكمة العليا، وهو ما يثير المزيد من النزاعات والمشاحنات بين المُلاك والمستأجرين، ويضرب استقرار ملايين الأسر (المستأجرين).
نسأل الله السلامة لمصر، وخروجا آمنا من هذا المأزق، يحفظ للمالك حقوقه، وللمستأجر أمانه واستقراره.