اعتذار.. عن وعد بلفور؟
ما هو العائد من الاعتراف الجماعي بدولة فلسطين؟!

توالت الاعترافات عاصفة، بـ «دولة فلسطين»، ليصل عدد الدول التي أعلنت اعترافها إلى 150 من أصل 193 دولة، بعدما اعترفت فرنسا ودول غيرها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (الاثنين).
ليكون بين المعترفين أربع دول كبرى تتمتع بحق الفيتو في مجلس الأمن الدولي، هي بريطانيا (اعترفت الأحد الماضي)، وفرنسا، وسابقًا روسيا، والصين.
ما دلالات هذه العاصفة اعترافًا بالدولة الفلسطينية؟
لا جدال بأن المجازر، والمحارق، والمجاعة المستمرة لعامين في غزة بأيادي جيش الاحتلال الصهيوني، استنفرت غضبًا شعبيًا غربيًا، أوروبيًا، يمثل ضغطًا فائقًا على «الحكومات»، التي لا تملك تجاهل الرأي العام لشعوبها.
ولأنها لم تستطع إيقاف الإبادة المستمرة منذ عامين للشعب الفلسطيني، فكان لا بد لها من خطوة لاستيعاب وإرضاء شعوبها الغاضبة.
مفاعيل طوفان الأقصى.. والمردود العملي
هذه العاصفة اعترافًا بفلسطين، هي من مفاعيل طوفان الأقصى (7/10/2023)، وثمنًا لدماء الشعب الفلسطيني.
يؤكد هذا المعنى تعليق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على طوفان الاعتراف، بأنه «مكافأة لحركة حماس».
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4كردي فقط أم سوري فقط؟
- list 2 of 4بعد تدخل الرئيس.. انتخابات مصر لا نريدها فرصة ضائعة
- list 3 of 4الفاشر.. حين تتقاطع الجغرافيا بالنبوءة والتاريخ
- list 4 of 4أوروبا على صفيح ساخن.. فضيحة فساد أوكرانيا تهز برلين وتربك زيلينسكي
المستقر في الأذهان والوجدان، قبل الطوفان، أن القضية الفلسطينية ماتت، وشبعت موتًا.
فقد تخلى عنها العرب فعليًا، اللهم إلا من بيانات لا تحرك ساكنًا، ولا تسعف طفلًا فلسطينيًا جائعًا بعلبة لبن، ومؤتمرات تُعقد وتنفض لتكون منبرًا للخطب الرنانة دون جدوى.
وهذا الاعتراف كاشف لتهافت الرواية الإسرائيلية وعزلة الكيان، وفقدانه للمصداقية لدى الرأي العام الغربي الذي يُعد السند لتوظيف الحكومات لتحقيق المصالح الإسرائيلية.
ففي الدول الديمقراطية (كما الغربية) تدور الحكومات مع الرأي العام، فلا يمكنها التغريد بعيدًا عنه كثيرًا، أو طوال الوقت مهما كان ولاء الحكام لدولة الاحتلال.
ما العوائد الفعلية من هذا الاعتراف الجماعي؟
ليس حالًا، فهو مجرد بادرة رمزية، أو موقف معنوي لا أكثر، ليس له مردود على أرض الواقع ما لم يُقترن بتدابير عملية وعقوبات ضد إسرائيل تُجبرها على تغيير نهجها.
فالكثير من الدول ربطت اعترافها بإملاءات وشروط وقيود على شاكلة أن تكون الدولة بدون حماس، وبلا مقاومة، ومنزوعة السلاح.
كما يخلو الاعتراف من الإشارة إلى حدود الدولة، فليس لها معالم جغرافية.
وكونها منزوعة السلاح، فهذا يعني تكرار لخديعة اتفاق «أوسلو» الذي أسفر عام 1993م عن قيام السلطة الفلسطينية في رام الله بلا فاعلية.
التعاون التجاري مع الاحتلال
أما قيام «الدولة» عمليًا، فلا يزال الطريق شاقًا طويلًا لبلوغه.
هذه التحفظات لا تنفي أهمية الاعتراف، فهو يشكل ضغطًا سياسيًا ودبلوماسيًا على إسرائيل، يمكن البناء عليه، ويوسع من العزلة عليها وعلى أمريكا الداعم الرئيس لها.
ويدعم حل الدولتين، فقد يؤدي بمزيد من الجهود الدبلوماسية «العربية» والدولية الدؤوبة والمنسقة إلى دفع العديد من الدول المعترفة إلى قطع العلاقات التجارية مع دولة الاحتلال، وحجب الاستثمارات عنها، ومنع توريد الأسلحة لها.
المشكلة أن دولًا عربية تتعاون تجاريًا مع الكيان، ولم توقف هذا التعاون رغم استمرار الإبادة للشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وهو مسلك مؤسف، بينما «إسبانيا» لجأت إلى تدابير مؤثرة، بإلغاء صفقات سلاح كانت بصدد شرائها بمليار يورو من إسرائيل، وهو إجراء عقابي قوي. لو تكرر من دول أخرى سيكون فعالًا.
الحرب العالمية الأولى..
وتركة الإمبراطورية العثمانية
اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية ينطوي على أهمية فائقة، لكونها دولة الانتداب على فلسطين، وصاحبة «وعد بلفور»، الذي يمثل «ظلمًا تاريخيًا للشعب الفلسطيني.. يتكشف باستمرار»، بحسب نائب رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لامي. مما يلقي على عاتقها مسؤولية كبيرة لرفع هذا الظلم التاريخي عن الشعب الفلسطيني.
فعندما شارفت الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م) على الانتهاء بانتصار الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا، وأمريكا)، كانت الإمبراطورية العثمانية التي وُلدت نواتها عام 1299م تتفكك وتتلاشى منذ عام 1908م حتى إعلان زوالها رسميًا (1922م). فكان التنافس على النفوذ في المنطقة وتقاسم تركة العثمانيين.
بريطانيا اختارت «فلسطين»، الولاية العثمانية حينذاك، لتميزها الجغرافي، ومكانتها الدينية «التوراتية»، التي يسكنها غالبية عربية مسلمة ومسيحية، ونسبة زهيدة من اليهود. فتم طرد العثمانيين بالتعاون مع العرب.
وبصدور قرار عصبة الأمم (الأمم المتحدة حاليًا) عام 1922، بوضع «فلسطين» تحت الانتداب البريطاني تمهيدًا للاستقلال، اكتملت السيطرة البريطانية عليها.
وقتها لم تكن الحركة الصهيونية غائبة، ساعية للفوز بـ «وطن» لليهود. فكان وعد بلفور (2/11/1917) الذي أسس للصراع العربي – الإسرائيلي، وأشعله طوال أكثر من قرن مضى.
تجسد هذا الوعد في رسالة رسمية قصيرة (68 كلمة) من وزير خارجية بريطانيا العظمى آرثر بلفور إلى ممثل الاتحاد الصهيوني اليهودي اللورد ليونيل روتشيلد.
عبد الناصر وكنيدي.. وعين العطف لصاحب الجلالة
مضمون الرسالة: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية، على ألا يجري ما قد ينتقص من الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى المقيمة في فلسطين، أو من حقوق اليهود في البلدان الأخرى أو الوضع السياسي لهم».
الضبابية غلفت نص ومضمون «الرسالة»، فقد تحدثت عن «وطن قومي» لليهود، ولم تذكر إن كان دولة مستقلة، أم كيانًا إداريًا، أو ثقافيًا، بما فتح الباب واسعًا للصهيونية لاستغلال هذا الغموض، لا سيما أنها لم تأتِ على ذكر هوية العرب، والحقوق الوطنية والسياسية لهم.
لذا فاعتراف بريطانيا له أهمية غير عادية لكونه ينطوي على قيمة قانونية دعمًا لحق تقرير المصير، ويرفع مستوى التمثيل الدبلوماسي في لندن. ويعد بمثابة «اعتذار ضمني» متأخر 108 سنوات عن جريمتها بإصدار «وعد بلفور»، الموصوف من الرئيس المصري جمال عبد الناصر (1956 – 1970) في رسالته إلى الرئيس الأمريكي جون كنيدي (1961 – 1963م)، بقوله: «لقد أعطى من لا يملك، لمن لا يستحق وعدًا، ثم استطاع الاثنان، بالقوة والخديعة أن يسلبا صاحب الحق الشرعي حقه فيما يملكه، وفيما يستحقه».
وقف الحرب؟
ليس بوسع موجة الاعتراف بفلسطين وقف الحرب الجنونية الإسرائيلية على غزة، ما دامت الولايات المتحدة الأمريكية داعمة لهذه الحرب الوحشية.
لجم إسرائيل، وإلزامها بوقف حرب الإبادة، والمجازر، والتجويع، يحتاج إرادة عربية فولاذية، غير متوفرة على الأقل في الوقت الراهن.
نسأل الله النصر للشعب الفلسطيني
