صراع الطرق والمضايق

الشرق الأوسط والبحر الأحمر في قلب الصراع على قيادة العالم

حركة الملاحة في قناة السويس (غيتي)

العالم لا يُدار فقط بالتحالفات العسكرية أو القمم الدبلوماسية، بل بالطرق التي تنقل البضائع وتربط الأسواق وتفتح أو تغلق منافذ التجارة. من طريق الحرير القديم إلى قناة السويس، ومن قوافل القطن إلى شحنات النفط والغاز، ظل الطريق هو الشريان الذي يمدّ الإمبراطوريات بالحياة. واليوم، في القرن الحادي والعشرين، نشهد عودة كبرى لهذه الحقيقة: صراع الممرات.
في زمن العولمة المتعثرة وصعود القوى الجديدة، لم تعد السيطرة على الأرض وحدها كافية، بل أصبحت السيطرة على الممرات البحرية والبرية شرطًا للهيمنة. الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وأوروبا، والهند، كلها تخوض منافسة مفتوحة لرسم خطوط جديدة: الحزام والطريق الصيني، والطريق الموروث عبر البحر الأحمر والسويس، والممر الهندي الخليجي الأوروبي، وطريق التنمية العراقي التركي، ثم الفرضية المثيرة: مرفأ غزة كممر بديل إلى المتوسط. لكن البانوراما لا تكتمل من دون السودان والبحر الأحمر، حيث تتقاطع المصالح الأمريكية والروسية والصينية والإسرائيلية والتركية والإيرانية والسعودية، في محاولة لإعادة ضبط مفاتيح الملاحة العالمية. وبين قمة ألاسكا التي عكست التصادم الأمريكي الروسي، وقمة شنغهاي التي أبرزت التحدي الصيني الأمريكي، تبدو الممرات هي الجبهة العملية لصراع النظام العالمي الجديد.

الحزام والطريق، مشروع الصين الذي أعاد رسم الخريطة

عندما أعلنت الصين عام 2013 مبادرتها الكبرى “الحزام والطريق”، لم يكن ذلك المشروع مجرد برنامج بنية تحتية، بل خطة استراتيجية لإعادة صياغة النظام الدولي. المشروع يغطي أكثر من سبعين دولة ويضم استثمارات بمليارات الدولارات. يقوم على مسارين: الحزام البري عبر آسيا الوسطى وروسيا وصولًا إلى أوروبا، والطريق البحري من شرق آسيا عبر المحيط الهندي وباب المندب وقناة السويس وصولًا إلى المتوسط. لكن اعتماد المشروع على البحر الأحمر والسويس جعل الصين عرضة للاختناق. فأيّ أزمة في باب المندب، أو حادثة في القناة، تعني خسائر هائلة.
هذا المشهد يذكّر بطريق الحرير القديم حين كانت القوافل الصينية تمر بدمشق وبغداد لتصل إلى المتوسط، وكانت السيطرة عليه تعني الهيمنة على ثروة القارات. بكين اليوم تحاول أن تعيد إنتاج طريق الحرير لكن بأدوات عصرية: سكك، وموانئ، واستثمارات. وكما واجهت القوافل قديمًا صراعات الإمبراطوريات الفارسية والرومانية والعربية، تواجه القوافل الحديثة صراعات القوى الأمريكية والأوروبية والآسيوية. من هنا يمكن القول إن الحزام والطريق ليس بدعة صينية، بل عودة إلى منطق تاريخي قديم.

الطريق الموروث، قناة السويس بين المجد والهشاشة

المسار التقليدي ظل عصب التجارة العالمية منذ القرن التاسع عشر: الخليج عبر مضيق هرمز، فالمحيط الهندي، فباب المندب، فقناة السويس، وصولًا إلى المتوسط فأوروبا. وقوته أنه مألوف، مزود بخدمات متكاملة، ومجرب عبر الزمن. لكن هذا الطريق صار عنق زجاجة، فأي حادثة صغيرة توقف مليارات. في عام 2021، حين علقت سفينة “إيفر غيفن” في القناة، تكبد الاقتصاد العالمي خسائر بمليارات الدولارات. ومع تصاعد التحديات الأمنية في البحر الأحمر، ظهر جليًا أن الاقتصار على مسار وحيد يعرّض التجارة العالمية للاختناق عند أي طارئ. هذا يذكّرنا بمضيق جبل طارق حين كان البريطانيون يسيطرون عليه في القرن الثامن عشر، فكان مفتاح المتوسط بأكمله. يومها كانت أي سفينة تمر تحتاج إلى أن تراعي السيادة البريطانية، مما جعل لندن تتحكم في طرق التجارة من المحيط إلى المتوسط. قناة السويس اليوم تؤدي الدور نفسه، لكن هشاشتها تكمن في أنها الممر الوحيد، بينما جبل طارق كان منفذًا بين محيط وبحر. لهذا تحاول القوى الكبرى أن تجد بدائل تُخفّف من هذا الاحتكار.

الممر الهندي الخليجي الأوروبي.. ورقة الغرب ضد بكين

في قمة العشرين وُلد مشروع الممر الهندي الخليجي الأوروبي، وهو خط بحري من الهند إلى الخليج، ثم بري عبر السعودية والأردن إلى موانئ شرق المتوسط، خصوصًا حيفا، ثم بحري قصير إلى اليونان فأوروبا. هذا المشروع يهدف إلى تقليل الاعتماد على البحر الأحمر وتقديم بديل عن الحزام والطريق. لكن معوقاته كثيرة: مناطق توتر، حدود سياسية متشابكة، حاجات جمركية وأمنية معقدة. ومع ذلك، يكفي أن يكون المشروع مطروحًا لإرباك بكين.
هذه الفكرة تذكّر بمحاولة البرتغاليين في القرن السادس عشر الالتفاف حول الممرات العربية والإسلامية عبر رأس الرجاء الصالح. لم يكن الطريق الجديد وقتها مجرد اكتشاف جغرافي، بل انقلاب استراتيجي غيّر موازين التجارة، وأسقط هيمنة الموانئ العربية على طرق التوابل والحرير. مشروع “IMEC” لا يختلف في منطقه: الالتفاف على طرق الصين والممرات التقليدية لصناعة بديل قد يغيّر الحسابات وإن لم يكتمل بعد.

طريق التنمية، العراق والأناضول في قلب التوازن

في عام 2023 أعلن العراق عن مشروع طريق التنمية، لربط ميناء الفاو بتركيا فأوروبا عبر سكك ومناطق لوجستية. إذا تحقق فسيحوّل العراق من ساحة نزاع إلى شريان عبور، ويضاعف دور تركيا بوصفها بوابة نحو أوروبا. قوة المشروع أنه يقلل الاعتماد على البحر الأحمر. لكن نجاحه مرهون بالاستقرار السياسي والأمني. لا سكك ولا طرق تعيش بلا دولة مستقرة. فإذا تمكن العراق من تحقيق ذلك، فإن المشروع سيجعله مركزًا بدل أن يبقى هامشًا، وسيغير معادلة الممرات في المنطقة.
وليس بعيدًا عن هذا المثال، نتذكر قناة بنما التي افتتحت عام 1914 وربطت المحيطين الأطلسي والهادئ، فغيّرت موقع أميركا العالمي وحولتها إلى قوة محيطين. يومها كانت بنما مشروعًا محفوفًا بالأخطار الهندسية والسياسية، لكنه جعل الولايات المتحدة لاعبًا عالميًّا حاسمًا. العراق اليوم يقف أمام فرصة مشابهة: أن يبني طريقًا يحوله إلى عقدة رئيسية، ويغير صورته من ساحة حرب إلى جسر عبور.

غزة.. المنفذ الصغير الذي يقضّ مضاجع الكبار

هنا يظهر الاسم غير المتوقع: غزة. الفكرة تقوم على خط بري من الخليج أو العراق عبر الأردن وصولًا إلى غزة، حيث يُنشأ مرفأ متوسط الحجم، ثم تُنقل البضائع بحرًا مسافة قصيرة إلى قبرص واليونان فأوروبا. غزة لا تلغي قناة السويس، لكنها تقدم بديلًا مكملًا. وهذا وحده يقلق واشنطن وتل أبيب والقاهرة. لماذا؟ لأن السيطرة المطلقة تتحول إلى نسبية. فحتى لو بقي المنفذ تحت رقابتها، فإن مجرد وجوده يكفي ليكون ورقة مساومة.
إن هذا السيناريو يعيد إلى الأذهان كيف أن ظهور طريق رأس الرجاء الصالح البرتغالي في القرن السادس عشر لم يُنهِ البحر الأحمر تمامًا، لكنه قلّص من أهميته، وفتح الباب لأوروبا للهيمنة على التجارة مع آسيا. غزة قد تؤدي دورًا مشابهًا: لا لتلغي السويس، بل لتُضعف احتكارها وتقدم بديلًا استراتيجيًّا جديدًا. وهنا يلتقي الجيوسياسي بالسياسي المباشر، فالميناء الذي يُمكن أن يكون عقدة وصل بديلة هو نفسه الميدان الذي يتعرض اليوم لعدوان إسرائيلي أميركي مركّب: قصف مستمر، وسياسة تهجير، وقضم للأرض وسلب لها. هذه ليست أحداثًا معزولة، بل جزء من معركة السيطرة على الجغرافيا التي تسبق رسم طرق التجارة. فالطريق لا يولد فقط بالخرائط والاتفاقيات، بل بالدم والسيطرة على الأرض، وما يجري في غزة يكشف بوضوح أن الممرات الجديدة لا يمكن فصلها عن مشاريع القوة التي تمارسها الدول العظمى وحلفاؤها في الشرق الأوسط.

السودان والبحر الأحمر.. عين العالم على الساحل الإفريقي

لا تكتمل الصورة من دون السودان. هذا البلد يمتلك أكثر من سبعمئة كيلومتر من السواحل على البحر الأحمر، بمرافئ استراتيجية مثل بورتسودان. وإلى جانبه تقع إريتريا وجيبوتي وأرض الصومال واليمن. كلها تشكل مفاتيح الممر الذي يربط المحيط الهندي بالسويس والمتوسط. لهذا لم يُنظر إلى الحرب بين الجيش والدعم السريع على أنها أزمة محلية، بل اعتُبرت فرصة لإعادة التموضع الدولي. أمريكا تريد أن تبقي البحر الأحمر تحت هيمنتها. إسرائيل تستثمر في الفوضى لتوسيع نفوذها الاستخباري وربط البحر الأحمر بمشروعها شرق المتوسط. روسيا تسعى لقاعدة في بورتسودان تمنحها منفذًا على المحيط الهندي. الصين تترقب لاستثمار موانئ السودان ضمن الحزام والطريق. تركيا ومصر تعتبرانه عمقًا استراتيجيًّا لا يمكن التفريط فيه. إيران والسعودية تتابعان لحماية خطوط نفوذهما البحرية. أما بريطانيا فهي جزء من “الرباعية” التي تتبنى الوساطة، لكنها تحاول استعادة دورها التقليدي في القرن الإفريقي.
وهنا يمكن المقارنة بدور مضيق هرمز أو مضيق ملقا. كل قوة كبرى سعت إلى أن تضمن لنفسها موطئ قدم فيهما، لأنها تعلم أن من يمسك بعنق الزجاجة يفرض نفسه على التجارة الدولية. السودان اليوم يشبه هذه العقد: من يسيطر عليه يملك مفتاحًا إضافيًّا للبحر الأحمر.

من ألاسكا إلى شنغهاي.. القمم مرآة للصراع

اللقاءات العالمية في الفترة الأخيرة، من قمة ألاسكا بين ترامب وبوتين، إلى قمة شنغهاي التي جمعت الصين وحلفاءها، لم تكن محادثات بروتوكولية، بل استعراضات صراع. ألاسكا أظهرت أن التفاهم بين واشنطن وموسكو هشّ، وأن أوكرانيا وأوروبا الشرقية ساحة نزاع مفتوحة. شنغهاي أظهرت أن العالم ينقسم إلى كتلتين: أطلسية غربية تتمسك بالهيمنة، وصينية روسية تبني بدائل في التجارة والتكنولوجيا والمال.
هذا يذكّرنا بالمؤتمرات الاستعمارية في القرن التاسع عشر مثل مؤتمر برلين 1884 الذي قسّم إفريقيا على خرائط القوى الأوروبية. يومها كانت الطاولة هي الوجه السياسي للصراع، والطرق والممرات هي وجهه العملي. اليوم الأمر نفسه: القمم تكشف التناقضات، والممرات تجسدها في الواقع.

بانوراما الممرات وصراع إدارة العالم

من الحزام والطريق إلى السويس، ومن الممر الهندي الخليجي الأوروبي إلى طريق التنمية، ومن غزة إلى السودان، ومن ألاسكا إلى شنغهاي، تتضح البانوراما: الممرات هي التي تحدد النظام العالمي الجديد. الشرق الأوسط والقرن الإفريقي هما قلب العاصفة لأنهما يحتضنان المفاتيح: هرمز، وباب المندب، والسويس، والبوسفور، وغزة، والسودان. السيطرة على هذه النقاط لا تعني الاطمئنان، بل على العكس، وجود بدائل ولو صغيرة يكفي لتغيير الحسابات. وهذا ما يقلق أمريكا وإسرائيل، ويعطي الصين وروسيا أوراقًا للتوازن.
إن دروس التاريخ واضحة: من طريق الحرير إلى جبل طارق، ومن قناة بنما إلى رأس الرجاء الصالح، الممرات هي التي تغيّر موازين القوى. واليوم، يعاد المشهد بأدوات جديدة وأسواق أكبر، لكن المنطق هو نفسه: من يسيطر على الطريق يسيطر على العالم. النظام العالمي الجديد لن يُكتب في البيانات الرسمية بقدر ما يُكتب على الطرق التي تسلكها الحاويات، وعلى المضايق التي تُفتح أو تُغلق، وعلى المرافئ التي تُبنى أو تُعطل. ومن يفهم هذه الحقيقة يدرك أن الصراع القادم ليس فقط على الخرائط، بل على الطرق التي تصنع الخرائط ذاتها.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان