هل يتحول التعاطف الغربي مع غزة إلى تيار سياسي تحرري؟

فرانكفورت شهدت مظاهرات كبيرة ضد وحشية الاحتلال في غزة
فرانكفورت شهدت مظاهرات كبيرة ضد وحشية الاحتلال في غزة (اسوشيتد برس)

يبدو كحالة وعي شاملة تغمر المواطن الأوروبي الذي تفطَّن أخيرًا إلى أنه ضحية خدعة صهيونية. كثير من الشعارات السياسية المرفوعة في مظاهرات تجتاح العواصم والمدن الغربية تتجاوز الآن قضية الإبادة في غزة لتنطق بلسان تحرري يشير بوضوح إلى أن مستقبل العلاقة بين المواطن الأوروبي والكيان مقبلة على تغيير عميق. فتهمة معاداة السامية المربكة لم تعد تربك المواطن الأوروبي والشباب منه خاصة. لذلك يتحرك بحرية معلنًا إعادة تركيب الصورة الذهنية لقضايا الشرق الأوسط دون وجل أمام رواية الهولوكوست.

هل ستقف هذه الموجة عند حدود التعاطف المؤقت مع غزة ثم يعود المواطن الغربي إلى سالف نشاطه ورفاهه المادي، أم ينضج مشروعًا أكبر ويتقدم إلى حياة سياسية متحررة من ضغط اللوبي الصهيوني على الحكومات وعلى النخب وعلى كل السياسات الغربية؟ وهل سيظهر من بين النخب العربية من يعمل على تطوير هذا التحول الغربي في الرأي العام ليستثمر في بناء علاقات سياسية على قاعدة إنسانية تتجاوز إرث الاحتلالات والغطرسة الغربية؟ هناك تحول يحتاج إلى وضع توقعات، وإن كانت المعطيات قليلة.

هيمنة اللوبي الصهيوني على السياسة

ليست ضربًا من الخيال

نذكر بأن القانون الفرنسي كعينة من قوانين أوروبا يجرِّم التشكيك في الهولوكوست، وقد قاضى مفكرًا وفيلسوفًا كبيرًا بحجم روجيه غارودي على نقد خطاب الهولوكوست. وقد عايشنا لفترة طويلة انتخابات أوروبا الرئاسية والبرلمانية، وكان ولاء السياسيين للرواية الصهيونية والكيان الذي قام على أساسها هو مدخل كل سياسي يتقدم لحكم بلاده. ثم يتحول إلى أداة تنفيذية لمطالب الكيان من بلاده؛ فيسلِّح ويحمي سياسيًّا ويحارب إلى جانب الكيان عند الاقتضاء منذ وعد بلفور إلى العدوان الثلاثي وفي كل المعارك التي نشبت ضد الكيان.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

لقد انكشفت دولة عميقة أوروبية مهمتها حماية الكيان وخدمته والحرص على بقائه مسيطرًا على المنطقة ومحددًا لمصيرها ومصير ساكنتها، بقطع النظر عن كل خطاب حقوق الإنسان وكل اللغو المصاحب له. ولا شك أن هذا ثمرة عمل دؤوب بدأ منذ القرن التاسع عشر ويستمر بلا كلل حتى حرب الطوفان.

وقد اكتشفنا تغلغل الرواية الصهيونية في ذهن الفرد الغربي من لقاءات كثيرة جمعتنا بباحثين ومثقفين فرنسيين يؤمنون بحقوق الإنسان، لكنهم لا يراجعون طبيعة الكيان ولا أسس قيامه ولا حق المواطن الفلسطيني الذي سُلب منه في أرضه ووجوده. وهم يعيشون مرتاحين (في ما يبدو لنا) في هذا التناقض ويتمتعون بسلامة خطابهم الحقوقي.

لكن الموجة التي نتابع الآن، التي بلغت ذروتها في أسطول الصمود وفي آلاف المظاهرات المتعاطفة مع الحق الفلسطيني، بلغت ذُرى عالية من نقد الكيان والتشكيك في روايته، وأعادت اكتشاف الحق الفلسطيني والعربي من حوله لتوحي بأن حالة من الاستقلال الفكري تنشأ الآن وتعبر عن نفسها. وقد التقطنا في خطاب المتعاطفين الإيطاليين انزياح تهمة الإرهاب عن العرب (جماعة سبعة أكتوبر) ورميها على الكيان ودولته. وهذا في تقديرنا تحول كبير في الخطاب وفي الممارسة ينذر بأمر عظيم.

لقد ظهرت نتيجة أولى وسريعة في إيطاليا: إنهاء وجود شركة صهيونية مثل كارفور. ولم يكن هينًا أن يُرفع من قلب لندن/ بلفور شعار “الموت لجيش الدفاع”.

الإشارة المضيئة من نيويورك

فاجأ المترشح لرئاسة بلدية نيويورك جمهورًا واسعًا بتبنيه لخط سياسي مناهض للرواية الصهيونية من قلب نيويورك. وقد كان صريحًا وواضحًا وهو يعلن عدم زيارة تل أبيب بصفتها تقليدًا راسخًا لمن تقدم للمنصب قبله ومن نافسه في هذه الدورة. تل أبيب ليست مصدر الشرعية في الموسم الانتخابي بل الناخب المحلي وقضاياه اليومية.

لم يصل الرجل بعد إلى المنصب، ونتابع ضغوطًا كثيرة تُسلَّط عليه بسبب خطابه الاستقلالي لتدفعه إلى الانسحاب، لكن اللافت أكثر من الخطاب هو أن الجمهور الناخب اختاره على هذه القاعدة السياسية الجديدة: رفض الولاء للكيان ومجاملته على حساب المواطن الأمريكي.

لم يخش هذا الناخب من الانحياز إلى مرشح غير مسيحي وغير أوروبي الأصل بل شرقي آسيوي ومسلم (فوق البيعة). وقد نشهد فوزه قريبًا برئاسة أكبر بلدية موالية للكيان من قلب أميركا.

هذا الميل الانتخابي له دلالة سياسية، وقد يتحول إلى تيار مؤثر وحاسم في كل عملية انتخابية قادمة، أي أبعد من رئاسة بلدية. لقد مال الجمهور طبقًا لقاعدة تصويت جديدة. لقد وضع الدولة العميقة الأمريكية في مأزق وجودي، وقد يكون المساس بسلامة المرشح عاملًا إضافيًّا لسقوط السردية وتقوية التيار الاستقلالي أو التحرري في قلب الولايات المتحدة.

لا شك أن نجاح المرشح بناء على خطابه التحرري سيكون مغريًا لكثيرين في كل مجال سيطرة السردية. إن رفضها وتجاوزها جالب للناخب في الصندوق، خصوصًا وقد شهدنا منذ الثمانينيات تدني نسب المشاركة الانتخابية في كل الغرب نتيجة تكلس الخطاب وتجمد الممارسة حول القضايا المحلية وخاصة حول السياسات الخارجية لدول فقدت سيادتها على قرارها السياسي تحت تأثير اللوبي الصهيوني.

نشير في الأثناء إلى حالة من الرضا السياسي الواسع يحظى به رئيس حكومة إسبانيا الحالي نتيجة قرارات تحررية اتخذها منذ بداية الطوفان ضد الكيان. إنها رسالة أخرى من قلب أوروبا لبقية الطبقة السياسية الواقفة على أبواب المراجعة.

إن المسلَّمة القائلة بأنه لا نجاح ولا فوز إلا بإعلان الولاء المسبق للسردية الصهيونية تهتز الآن في كل عاصمة غربية. ولا نشك أن هناك من يتربص بهذا التحول انتخابيًّا ليستثمر فيه، لكن لن نجزم بتحول إلا في مواعيد انتخابية قادمة. ويبدو لنا ميلنشون الفرنسي يسير على نفس الطريق لكنه متردد ولا يحسم ككل اليسار الفرنسي المصاب بفرط النزعة الحقوقية.

هذا أوان تكوين اللوبي العربي في الغرب

نتذكر في انتخابات ترامب الأخيرة أن جماعات ضغط عربية في الولايات المتحدة عملت على دعم ترامب، وتحدث كثيرون عن ميلاد لوبي عربي مسلم وتنبأ الكثيرون بتعديل الكفة في السوق الانتخابي الأمريكي. وقد أظهر ترامب نوعًا من التقدير لهذه الجماعات وجاملها، لكن بوصوله إلى المنصب قلب لها ظهر المجن وتجاهل وجودها. فلم يظهر في قراراته الكثيرة ما يدل على أي تقدير لها.

أسلوب صناعة اللوبي في السوق الأمريكية –فيما يبدو لنا– يمر بزواريب خارج الأخلاق السياسية، وهو ما لا يقدر عليه العرب والمسلمون هناك. هذه الجماعات غير قادرة على مسك ملف أخلاقي على رئيس كما أُمسك على كلينتون وعلى ترامب وربما غيره قبلهما مما فاتتنا معرفته.

لكن بناء لوبيات على أساس الحق العربي عامة في الديمقراطية، والحق الفلسطيني في الحياة والحرية، يمكن أن يكون بابًا مفتوحًا تدخل منه نخب عربية مهاجرة ومحلية على بناء خطاب إنساني وحقوقي يخاطب المثقفين والنشطاء والسياسيين في الغرب وصولًا إلى الولايات المتحدة.

إن موجة التعاطف العارمة التي تحرك الأساطيل وتوشك أن تربك الموانئ الغربية يمكن أن تتحول إلى موضوع للاستثمار السياسي، ليس بمنطق محمود عباس (احمونا)، لكن بمنطق تحرري (افهمونا)، فنحن أصحاب حق ولسنا أعداء لكم.

إن انزياح وصم الإرهاب إلى الكيان بعد أن التصق طويلًا بالعربي وبالفلسطيني مؤشر يُبنى عليه. لقد انتبه كثيرون قرأنا لهم وسمعنا خطابهم في وسائل الإعلام إلى أن مسرحيات داعش الإرهابية صناعة مخابرات غربية وليست صناعة عربية أو إسلامية، وقد تحول ظهور داعش إلى مثير للوعي بطبيعة ضرباتها ثم السخرية من مستعمليها. وهذه خطوة مهمة في تنظيف اللوحة السوداء التي أُلصقت بالإسلام وبالعرب.

من سيُقدِم على تأسيس خطاب “افهمونا لنتعايش في مستقبل بلا سرديات مزيفة”؟ إنها مغامرة وعي ونشاط سياسي ومدني تنفتح بفضل الطوفان، وبفضل غزة، وبتأثير من بشاعة الجريمة الإنسانية التي تُرتكب على المباشر.

ما زالت هناك معضلة لا نظن المواطن الغربي معنيًا بها بدرجة كبيرة، وهي مجازر الديمقراطية في الأقطار العربية. وهي مجازر من جنس ما يجري في غزة لكن بسلاح محلي. إن العربي الذي قد يفكر في التوجه إلى الغربي ليقول له: “افهمونا لنتعايش” ملزم بالبدء من مكانه الأقرب، لينهي مجازر الديمقراطية، فيكون له صوت مسموع خارج حدوده.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان